د. مصطفى دويدار
أستاذ مساعد التاريخ الإسلامي-كلية العلوم والآداب بالعلا- جامعة طيبة
مفهوم الخلافة:-
الخلافةُ في اللغة مشتقةٌ من مصدر خَلَفَ, إذ يقال: "خلفهُ خلافةً, وكان خليفتهُ وبقى بعده, والجمع خلائف وخلفاء".
أما في المصطلح فهي رياسة عامة في أمور الدين والدنيا نيابة عن النبي()، فيقول الماوردى: "إن الله جلت قدرته ندب للأمة زعيمًا خلفَ به النبوةَ وحاط به الملة, وفوض إليه السياسة ليصدر التدبير عن دين مشروع وتجتمع الكلمة على رأى متبوع, فكانت الإمامة أصلا استقرت عليه الملةُ وانتظمت به مصالح العامة حتى استتبت به الأمور العامة وصدرت عنه الولايات الخاصة", ويقول ابن خلدون: "إن الخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها. إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشرع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة. فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به". فالخليفة لا يعدو أن يكون رئيسا دينيا وسياسيا نيابة عن الرسول(), يجمع بين السلطة الدينية باعتباره إماما للمسلمين, والدنيوية لأنه ينظر في مصالح المسلمين الدنيوية. ويختلف هذا المنصب الجديد المستحدث في النظم الإسلامية, عن منصب الإمبراطور في أوربا في العصور الوسطى, فالإمبراطورية المقدسة لم تكن مستحدثة بل كانت استمرارا لإمبراطورية وثنية سابقة, كذلك كان ينازع الإمبراطور صاحب السلطة الزمنية البابا صاحب السلطة الدينية.
وقد استحدث نظام الخلافة عقب وفاة الرسول(), حيث أنه لم يعين للمسلمين خليفة لهم, وكأنما أراد أن يترك الأمر للمسلمين ليختاروا من يصلح لها من بينهم. وكان لابد أن يتعرض الفقهاء لشروط الخلافة, التي تمكن من يتولاها من القيام بعمله أي سياسة الدنيا وحراسة الدين, فجعلوا هذه الشروط متعددة واتفقوا على أغلبها, غير أنهم اختلفوا في أولوية هذه الشروط فمنها العلم والعدالة والقدرة على الاجتهاد في أمور الدين والدنيا, والكفاية وسلامة الحواس والأعضاء وأخيرا النسب القرشي, الذي جعله بعضهم أول الشروط. بينما أنكرته بعض الفرق مثل الخوارج. أما الشيعة فقد تمسكوا بشرط أن تكون الإمامة في أبناء على بن أبى طالب بوصفهم أقرب الناس نسبا للرسول().
وقد ارتبطت بولاية الخلافة بعض الشارات أو العلامات, منها الخاتم الذي صنعه الرسول() لمراسلة الدول والحكام وختم رسائله, والقضيب أو السيف ثم البردة وهى جميعا من آثار الرسول صلى الله عليه وسلم ثم أضيف إليها فيما بعد الدعاء للخليفة على المنابر, وذكر اسمه على السكة (العملة).
أوضاع الدولة الإسلامية بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم:-
بعد هجرة الرسول() إلى المدينة المنورة (يثرب), أصبحت رابطة العقيدة تشكل "أمة" كما ورد في الصحيفة التي تعتبر أول دستور لدولة إسلامية, ولم يكن النبي() منفردا, وإنما كان إلى جانبه مستشاروه من الصحابة وهم ليسوا موظفين معينين, ولم يكن باب الشورى مقصورا عليهم وحدهم وإنما هو مفتوحا للناس جميعا في الدولة.
وقد ورد في الصحيفة ما يدل على شكل هذه الدولة دستوريا: "بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب, ومن تبعهم, فلحق بهم وجاهد معهم, إنهم أمة واحدة من دون الناس......" ومن هنا فقد كان نظام الدولة في شكله دينيا يرتكز على الأحكام المنزلة ولكنه في تطبيق أحكامه استشاري.
وقد تميزت الدولة الإسلامية التي أعلنها الرسول() بميزتين هامتين هما: حفاظ هذه الدولة على حرية الأديان والحفاظ عليها, ثم رفضها للتعصب العنصري رغم اعتمادها أولا على العنصر العربي. ونلاحظ أيضا أن الرسول ()استخدم اصطلاح "الأمة" للتعبير عن الدولة لما لتعبير"الأمة" من شمولية.
وتمكن صلى الله عليه وسلم في حياته من إدارة شئون هذه الأمة وتطبيق ما أنزله الله عليه بخصوص سياسة الدنيا ورعاية الدين, وكان النظام في عهده يقوم على أساس إحلال الوحدة الدينية محل العصبية القبلية, فلما توفى الرسول(), ظهرت في الأفق السياسي مناقشة جدلية فيمن يخلفه, إذ لم يؤثر عنه نص صريح في مسألة الحكم من بعده, ويبدو أن الرسول () آثر أن يترك الأمر شورى بين الملمين تطبيقا لما ورد في القرآن الكريم بهذا الخصوص "والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شوري بينهم ومما رزقناهم ينفقون" (الشورى آية 38).
اجتماع السقيفة ومسألة الخلافة:-
انعقد أول اجتماع بين المسلمين لتحديد النظام السياسي الذي ستتبعه الدولة الإسلامية بعد وفاة رسولها وقائدها, وهو الذي أطلق عليه "اجتماع السقيفة" وهي سقيفة بني ساعده بالمدينة, ودارت مناقشة بين أصحاب الرسول() من المهاجرين والأنصار عمن يحق له خلافة الرسول في رئاسة الدولة الإسلامية وعرضت أراء مختلفة كتفضيل الأنصار من الأوس والخزرج أو تفضيل المهاجرين من مكة أو اقتسام الزعامة بين الأنصار والمهاجرين, وراح كل فريق يدافع عن نظريته, مما يؤكد روح الشورى التي أمر بها الإسلام.
فقد دارت مساجلات الرأي في هذا الاجتماع بحرية وصراحة, بحيث مثلت وجهات النظر المختلفة. حتى أنها دعت كاتبا غربيا هو الأستاذ "ماكدونالد" أن يشهد" بأن هذا الاجتماع يذكر إلى حد كبير بمؤتمر سياسي دارت فيه المناقشات وفق الأساليب الحديثة".
ويمكننا أن نلخص أهم النظريات التي عرضت في هذا الاجتماع:-
أولا: الدفاع عن دعوي الأنصار في استحقاقهم للخلافة علي أساس أنهم الذين دافعوا عن الإسلام وحموه بأنفسهم و أموالهم, والذين آووا ونصروا, وأنهم أصحاب الدار.
ثانيا: الدفاع عن حق المهاجرين, واثبات أولويتهم في استحقاق الخلافة على غيرهم, علي اعتبار أنهم – على حد قول أبى بكر في خطابه: "أول من عبد الله في الأرض, وهم أولياء الرسول() وعشيرته, والذين صبروا علي شدة أذي قومهم وتكذيبهم إياهم, وكل الناس لهم مخالف زار, فلم يستوحشوا لقلة عددهم وإجماع قومهم عليهم "وجاء في ثنايا هذا الدفاع لأول مرة فكرة التنويه بفضل قريش:- "الأئمة من قريش" وستكون أساسا لأحقية القرشيين بالخلافة, أو انحصار هذا الحق فيهم.
ثالثا: نظرية إمكانية اقتسام السيادة أو تعدد الإمرة, وهي التي دعا إليها الحباب بن المنذر حين قال: "منا أمير ومنكم أمير" فما كان من عمر بن الخطاب إلا أن رد عليه: هيهات لا يجتمع اثنان في قرن. والله لا ترضي العرب أن يؤمروكم ... ولكن العرب لا تمتنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم وولى أمرهم منهم, ولنا بذلك على من أتى من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين, من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته, ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل بباطل أو متجانب الإثم, أو متورط في هلكة".
فرد عليه الحباب ردا شديدا, وقال مخاطبا قومه: "يا معشر الأنصار املكوا على أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه, فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر. فإن أبوا عليكم ما سألتموه فاجلوهم من هذه البلاد وتولوا عليهم هذه الأمور. فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم, فإن بأسيافكم دان لهذا الدين من دان ممن لم يكن يدين .....الخ".
فقال عمر: إذن يقتلك الله, قال: بل إياك يقتل.
فقال أبو عبيدة: يا معشر الأنصار إنكم أول من نصر وآزر, فلا تكونوا أول من بدل وغير, ثم قال بشير بن سعد من الأنصار فقال: يا معشر الأنصار, إنا والله لئن كنا أولى فضيلة في جهاد المشركين وسابقة في هذا الدين, ما أردنا به إلا رضا ربنا وطاعة نبينا والكدح لأنفسنا ,فما ينبغي أن نستطيل علي الناس بذلك ولا ينبغي به من الله عرضا, فإن الله ولى المنة علينا بذلك.
ألا أن محمد صلي الله عليه وسلم من قريش, وقومه أحق به أولى, وأيم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر أبدا, فاتقوا الله ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم.
فقال أبو بكر: هذا عمر وهذا أبو عبيدة, فأيهما شئتم فبايعوا. فقالا: لا, والله لا نتولى هذا الأمر عليك, فإنك أفضل المهاجرين, وثاني اثنين إذ هما في الغار, وخليفة رسول الله() على الصلاة، والصلاة أفضل دين المسلمين. فمن ذا ينبغي له أن يتقدمك أو يلي هذا الأمر عليك؟ ابسط يدك نبايعك.
فلما ذهبا إليه ليبايعاه, سبقهما إليه بشير بن سعد فبايعه, ثم قام إليه الأوس جميعا فبايعوه, وذلك حين رأوا ما صنع بشير, ثم أقبلت أسلم بجماعتها فبايعوه, فأقبل الناس من كل جانب فبايعوه, ثم جلس للناس فبايعوه جميعا البيعة العامة. ومنهم على بن أبى طالب حيث أقبل راضيا على البيعة حين رأى أن كلمة المهاجرين والأنصار قد اجتمعت عليه, فلم يرض لنفسه أن يخالف عما أجمع عليه المسلمون.
خلافة أبو بكر الصديق
)11-13 هـ/ 632-634م)
هو عبد الله بن عثمان التيمي القرشي, وكنية أبيه "أبو قحافة" وكان يسمي في الجاهلية عبد الكعبة فسماه الرسول() عبد الله, ولقب عتيقا لأن رسول الله() بشره بأن الله أعتقه من النار, والصديق لأنه بادر إلي تصديق الرسول (ص) لاسيما صبيحة الإسراء, وقد روي عن الرسول() أنه قال: ( ما دعوت أحدا إلي الإسلام إلا كانت له عنه كبوة وتردد ونظر, إلا أبا بكر ما عتم عنه حين ذكرته, وما تردد فيه).
وكان أبو بكر رفيق رسول الله() وأكثر الناس اتصالا به منذ صباه, وهو رفيقه عند الهجرة, وهو المعنى لقوله تعالى: "إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار, إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا" (سورة التوبة –آية 40).
ولما استقر الرسول في المدينة كان أبو بكر ساعده الأيمن, وقد خصه الرسول() بمزايا لم يخص بها أحد سواه, حتى أن العرب كانوا يسمونه وزيره علي حد قول ابن خلدون.
خلافة أبى بكر:-
استقبلت الأمة الإسلامية عامها الحادي عشر للهجرة, وقد اختارت الصديق رضي الله عنه خليفة لرسول الله(), وبايعته على أن يواصل السير بها, وفق كتاب الله وسنة نبيه, وأن يستكمل ما بدأه رسول الله() في بناء الدولة الإسلامية.
ويومها قام الصديق في الناس خطيبا: (أيها الناس إنما أنا مثلكم, وإني لا أدرى لعلكم ستكلفونني ما كان رسول الله() يطيق, إن الله اصطفى محمدا على العالمين, وعصمه من الآفات, وإنما أنا متبع ولست بمبتدع, فإن استقمت فتابعوني, وإن زُغت فقوموني, وإن رسول الله() قبض وليس أحد من هذه الأمة يطلبه بمظلمة , ضربة سوط فما دونها, ألا أن لي شيطانا يعتريني, فإذا أتاني فاجتنبوني).
وقد قبل عهد الأمة له يوم بويع بالخلافة, وأوضح للمسلمين برنامج عمله, وحدد لهم الطريق التي اعتزم أن يسير فيه, كما أكد أنه سوف يبذل كل ما في وسعه من جهد للمحافظة علي وحدة الأمة وتماسكها, والدفاع عن العقيدة التي أتى بها الإسلام وبلغها رسول الله(), وذلك بتأييد وعون من الصحابة وعدول الأمة, وبنصحهم ومشورتهم.
وكان الموقف دقيقا وحرجا, والمهمة صعبة, حيث كان عليه أولا أن يصمد في وجه المحاولات التي بذلت لتمزيق وحدة الأمة الإسلامية, ومن ثم حسم موضوع الحكم وسياسة الأمة بسرعة ومهارة حسبما تقتضيه طبيعة الموقف.
فكان عليه أن يقوم بدور نفسي هام, وهو أن يهدئ من روع الأمة التي لم تكد تصدق أن رسوا الله() قد قبض, ثم كان عليه أن يواجه موجة الردة العنيفة التي انفجرت في أنحاء شبه الجزيرة العربية, ثم كان عليه أن ينظر في قضية الفتوحات الإسلامية التي كان رسول الله() قد بدأها حين سير زيد بن حارثة ثم بعد ذلك رتب بعث أسامة بن زيد.
بعث أسامة بن زيد:-
كان أول عمل قام به أبو بكر الصديق, هو إنفاذ جيش أسامة بن زيد, وكان الرسول() قد أعد هذا الجيش قبل وفاته وأمر عليه أسامة لمحاربة البيزنطيين في الشام والقبائل المتحالفة معهم من قضاعة, ليثأر لشهداء معركة مؤتة سنة 8هـ والتي كان من شهدائها زيد بن حارثة أبو أسامة.
وكان هذا الجيش قد تأخر عن الرحيل بسبب مرض الرسول() وقد بلغ من حرص الرسول() علي إنفاذه أنه كان يردد- في مرضه- أنفذوا بعث أسامة, فلما قبض صلي الله عليه وسلم, اضطربت قبائل العرب, وأخذت تهدد المدينة, اعترض بعض الصحابة وعلي رأسهم عمر بن الخطاب علي إنفاذ هذا الجيش, ورأوا أن يبقى في المدينة كي يعاون الخليفة علي رد تهديد الأعراب, فكان رد أبى بكر: ( لو خطفتني الكلاب والذئاب لم أرد قضاء قضى به رسول الله صلي الله عليه وسلم), ثم رد على قولهم إبدال أسامة برجل آخر أسن منه, أن وثب وكان جالسا, وأخذ بلحية عمر بن الخطاب وقال له: ( ثكلتك أمك وعدمتك يا ابن الخطاب, استمله رسول الله() وتأمرني أن أنزعه.....).
ثم أمر بالرحيل وأوصاهم, وقد أحرز هذا الجيش النصر وأرهب الأعداء وعاد إلى المدينة. وبذلك نجح أبو بكر في إنفاذ هذا الجيش, وحقق رغبة الرسول صلى الله عليه وسلم, وأشعر العرب والروم بقوة المسلمين ووحدتهم ووقوفهم ثابتين وراء خليفتهم, وأوضح أن عهد أبى بكر والخلفاء الراشدين من بعده امتداد لعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حروب الردة:-
نجح النبي صلى الله عليه وسلم في القضاء على معارضة أهل مكة والطائف, وانتشر الإسلام في جميع أرجاء الجزيرة العربية التي خضعت قبائلها لسيادة الرسول() وحكومته, فلما قبض عليه الصلاة والسلام وجد كثير من هذه القبائل أنها لا تستطيع أن تستمر في الخضوع لحكم المدينة الذي يترأسه أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
ومن هنا كان ارتداد هذه القبائل عن الإسلام وظهور المتنبئين ومانعي الزكاة.
أسباب الردة:-
1- التعصب القبلي: فقد عاش العرب في الجاهلية في ظل تلك التقاليد القبلية التي كانت تفرض عليهم الولاء للقبيلة, والعمل من أجلها والتضحية بالنفس والنفيس في سبيل سؤددها, وإعلاء شأنها على غيرها من القبائل, ولم يجد هذا العربي مسوغا يدفعه للارتباط بحكومة المدينة وترك مشيخة القبيلة, ولاسيما هؤلاء الأعراب لم تنفذ العقيدة إلي أعماقهم بعد, حتى تزيل رواسب الماضي القريب, ولهذا تعصب العربي لقبيلته.
2- لما استخلف أبو بكر رضي الله عنه ارتدت طوائف من العرب, ومنعت الصدقة, وقال قوم منهم نقيم الصلاة ولا نؤدي الزكاة لأنها إتاوة كنا ندفها إلى الرسول, فلما انتقل إلى جوار ربه أصبحوا في حل من دفعها إلى خليفته, بتأويلهم قوله تعالى: "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها, وصلى عليهم إن صلواتك سكن لهم والله سميع عليم" (التوبة آية 103). وقال هؤلاء المانعين: إن هذا خاص بالرسول() لأنه كان يعطينا عوضا عنها التطهير والتزكية والصلاة علينا, وقد عدمناها من غيره. فقال أبو بكر: والله لأقاتل من فرق بين الصلاة والزكاة, فإن الزكاة حق المال, والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله() لقاتلتهم على منعه.
وإزاء هذا الإصرار الصائب من أبى بكر لم يملك المعارضون له – وعلى رأسهم عمر بن الخطاب – إلا أن يقروا له بالصواب كما جاء على لسان عمر: "فو الله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبى بكر فعرفت أنه الحق".
المتنبئون في جزيرة العرب:-
1- الأسود العنسي: وقد تنبأ في حياة الرسول() واتخذ صنعاء مركزا له في السنة العاشرة للهجرة, واسمه عبهلة بن كعب, وكنيته ذو الخمار. وقد استطاع بمن تبعه من قبائل مذحج اليمانية أن يستولى على نجران وصنعاء, وأن يخرج بعض عمال الرسول() من اليمن ومنهم معاذ بن جبل وخالد بن سعيد بن العاص وأبو موسى الأشعري وغيرهم , وانضم إليه عمرو بن معد يكرب الزبيدى أحد شجعان العرب , وقد شارك فيما بعد في معركة القادسية والمعارك الأخرى وحسن إسلامه وبلاؤه.
وقد تصدى رجال رسول الله() باليمن للأسود العنسي ورجاله, واستطاعوا أن يقضوا على حركته ويعيدوا اليمن إلي الإسلام, وكتبوا إلي رسول الله() بالبشرى فأتاه الخبر, وقدمت الرسل إلي المدينة حيث مات صلى الله عليه وسلم تلك الليلة فأجابهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه. وكان هذا أول فتح أتى الصديق وهو بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2- طليحة بن خويلد الأسدى :-
ارتد في حياة الرسول() وادعى النبوة, والتفت حوله عدد من القبائل من عيينة وغطفان وطئ, وكان يزعم أنه يوحى إليه وأن جبريل عليه السلام يأتيه كما يأتي محمد() فوجه إليه النبي() ضرار بن الأزور, فأمر عماله على بني أسد بالقضاء على كل من ارتد, وقد استطاعوا أن يخيفوا طليحة وأتباعه, إلا أن خبر موت الرسول() وصلهم آنذاك, فزاد طليحة ومن حوله من المرتدين في غيهم, فوجه إليهم أبو بكر الصديق, خالد بن الوليد ,فحارب طليحة الذي فر إلى بلاد الشام بعد أن انفض عنه أتباعه, لكنه عاد إلي الإسلام وشارك في فتح العراق.
ومن القبائل التي ارتدت عن الإسلام في نجد: هوازن وسليم وعامر, وقد حذت حذو بني أسد وغطفان وطئ بعد هزيمتهم, وطلبوا الدخول في الإسلام, فأرسل إليهم الصديق رضي الله عنه القعقاع بن عمرو الذي لم يقبل من أحدهم الإسلام, إلا أن يأتوه بمن عدوا على الدين في ردتهم, فلما آتوه بهم أقام فيهم الحد وقتلهم وبذلك عادت هذه القبائل إلي الإسلام .
3- سجاح بنت الحارث بن سويد التميمية ومسيلمة بن حبيب الحنفي الكذاب :
تنبأت بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم في بني تغلب فاستجاب لها الهذيل زعيم بني تغلب وترك النصرانية, ثم دعت زعماء بني تميم فاستجابوا لها, ثم اتجهت إلي اليمامة في جنوب نجد حيث مسيلمة الكذاب الذي تنبأ في بني حنيفة, واجتمع الاثنان في قبة ضربت لهما وتدارسا الأمر وسألها مسيلمة عما أوحى إليها, وسألته عما أوحى إليه, وحدث توافق بينهما وتزوجا.
وكان مسيلمة قد أدعى النبوة في حياة الرسول() فاتبعه بنو حنيفة وغيرهم من أهل اليمامة, ولما تولى أبو بكر الصديق أرسل عكرمة بن أبى جهل, فهزمه مسيلمة, فأمده الخليفة بشرحبيل بن حسنة فلم ينجح في القضاء عليه هو الآخر, فأرسل إلي خالد بن الوليد أن يتجه إلي مسيلمة فسار إليه خالد, والتقى جيش المسلمين بجيش الكذاب وبني حنيفة, فانهزم المسلمون أول الأمر حتى اضطر خالد إلي ترك خيمته, إلا أن المسلمون ثبتوا وتبايعوا على الموت والقتال ,فعاودوا الكرة حتى انتصروا ودخلوا المرتدون حديقة لهم يحتمون بها فاقتحمها عليهم المسلمون وقتل مسيلمة الكذاب, وقتله وحشي قاتل حمزة بن عبد المطلب , فكان يقول :" قتلت خير الناس –بعد رسول الله- وشر الناس".
وقتل عدد كبير من المسلمين في موقعة اليمامة, بلغوا حوالي (70) شهيد معظمهم من القراء وحفظة كتاب الله, مما دعي أبا بكر رضي الله عنه إلي تكليف بعض الصحابة بجمع القرآن خشية الضياع, ويعتبر جمع القرآن الكريم لأول مرة من أهم أعمال أبي بكر الصديق.
وبعد مقتل مسيلمة الكذاب عادت سجاح إلى الإسلام وحسن إسلامها.
ردة أهل البحرين وعمان:-
لم يقتصر أمر المرتدين على هؤلاء المتنبئين ومن تبعهم, فقد ارتد أهل البحرين, ولكب العلاء بن الحضرمي استطاع القضاء على ردتهم. كما ارتد أهل عمان ومهرة فأرسل إليهم أبو بكر الصديق عكرمة بن أبى جهل, وبعد أن تمكن من أهل عمان اتجه عكرمة إلى إقليم مهرة , فوجد بها فريقين, الفريق الأول كان في جيروت وعلى رأسه أحد رجال شخراة, وأما الفريق الآخر فكان بالنجد ويتقدمهم واحد من بني محارب يدعى المصبح, فدعا عكرمة الفريق الأول إلى الإسلام فأجابوه ومن ثم استنصرهم على الفريق الثاني الذي لم يستجب لنداء الإسلام فحاربهم المسلمون وقتلوهم شر قتلة, وأصابوا فيهم الغنيمة والفيء, أرسل عكرمة منه الخمس إلى الخليفة ووزع الأربعة الباقية على جنود المسلمين منفذا بذلك القانون الإسلامي العام في توزيع الغنيمة" واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول" (الأنفال-آية41).
وهكذا تمخضت حروب الردة عن إعادة الدين الإسلامي إلى العرب كافة, وأزالت الإلحاد والوثنية من كافة أنحاء الجزيرة, ووحدها على دين الإسلام, وتبع هذه الوحدة الدينية الوحدة السياسية المتمثلة في دولة الخلافة.
خلافة عمر بن الخطاب
(13-23هـ /634-644هـ)
هو عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزي, ينتهي نسبه إلى كعب بن لؤي القرشي, لقب بالفاروق عمر لأن إسلامه فرق بين الحق والباطل, وكنيته: أبوحفص.
ولد بعد عام الفيل بثلاث عشرة سنة, فكان مثال الفصاحة والبلاغة والصراحة في الحق, رعى الغنم لأبيه وهو صغير, ثم احترف التجارة, وهو من الرهط الذي انتهى إليهم الشرف في الجاهلية, وكانت إليه السفارة, فإذا وقعت الحرب بينهم وبين غيرهم بعثوا سفيرا. وكان عمر عزيز الجانب, محترما بين قومه, قوى الشكيمة شديد البأس.
إسلامه رضي الله عنه:-
في السنة الخامسة للدعوة أسلم عمر رضي الله عنه – بعد معارضة عنيفة للدعوة- وكان لإسلامه أثر كبير في ظهور الإسلام, حيث أبى إخفاء شعائره الدينية. ولم يكن في قريش من يجرؤ على معارضته. وقد أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اللهم أعز الإسلام بأحد هذين الرجلين : يعنى عمرو بن هشام وعمر بن الخطاب". وروى عن ابن مسعود أنه قال: "كان إسلام عمر فتحا, وكانت هجرته نصرا, وكانت إمارته رحمة".
وقد صحب عمر رضي الله عنه, رسول الله(), فأحسن صحبته, وبالغ في نصرته ووقف حياته على المدافعة عنه والذود عن الإسلام, وكان أشد الناس على الكفار.كما كان أبو بكر يستشيره في مهام الأمور ويحيل عليه القضايا ليفصل فيه, وإن لم يتسم باسم القاضي, وكان ساعده الأيمن في حروب الردة, وفي جمع القرآن الكريم .
بيعته رضي الله عنه:-
لما مرض أبو بكر رضي الله عنه, وشعر بدنو أجله, جمع الناس وقال لهم: انه قد نزل بي ما ترون, ولا أظنني إلا ميتا لما بي من المرض, وقد أطلق الله إيمانكم من بيعتي, وحل عنكم عقدتي, ورد عليكم أمركم, فأمروا عليكم من أحببتم, فإنكم إن أمرتم في حياتي, كان أجدر ألا تختلفوا بعدى.
ولما لم يجتمع المسلمون على إسناد الأمر لواحد منهم رجعوا إلى أبى بكر ووكلوه أن يختار لهم من يرى الخير لهم وللدين, فطلب منهم إمهاله حتى ينظر الأمر, واستشار كبار الصحابة, فوقع اختيارهم على عمر بن الخطاب.
ونستخلص من ذلك أن أبو بكر رضي الله عنه, كان يتخذ له مجلسا للشورى, وإن لم يكن معينا, كما أنه كان يهتم برأي المهاجرين مثلما يهتم برأي الأنصار, وهو بذلك أخذ ما يشبه موافقة الأمة على عهده لعمر رضي اله عنه.
وانطلاقا من شدة حرص الصديق رضي الله عنه, على وحدة الأمة وخشيته عليها أن يصيبها التفكك من بعده رأى أن يوصى لمن يلي بعده أمر المسلمين, ومن ثم كان عهده للفاروق بأن يقوم على تدبير مصالح الرعية من بعده. وكان هذا العهد خطوة جديدة في تطور نظام الحكم عند المسلمين, فقد قدر الصديق رضي الله عنه صعوبة الموقف الذي عاشته الأمة بعد رسول الله(), ومن ثم أراد أن يجنبها محنة جديدة قد تؤدى إلي انقسام جديد.
وقد ترك أبو بكر رضي الله عنه عهد عمر مكتوبا وموثقا بخاتمه, وكان نص العهد الذي حرره عثمان رضي الله عنه:-
( بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما عهد أبو بكر بن قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجا منها, وعند أول عهده بالآخرة, داخلا فيها حيث يؤمن الكافر, ويوقن الفاجر, ويصدق الكاذب, أنى استخلفت عليكم بعدى عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا وأنى لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيرا, فإن عدل فذلك ظني به وعلمي فيه, وإن بدل فلكل امرئ ما اكتسب, والخير أردت, ولا أعلم الغيب, وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته).
وعندما ولي عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخلافة, أعلن للناس مناهجه في الحكم فقال:) أيها الناس, إني قائل كلمات فأمنوا عليهن: إنما مثل العرب مثل جمل آنف اتبع قائده فلينظر حيث يقود, أما أنا فورب الكعبة لأحملنهن على الطريق).
التنظيمات الإدارية وتدوين الدواوين
انتهج أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه سياسة واضحة المعالم, تناولت القضايا التي ميزت عصره وارتبطت به, وهى قضايا التنظيم الإداري والعدل والحكم, فقد اقتضى التطور السياسي وجوب وجود تنظيم إداري نظرا لأتساع مساحة الدولة الإسلامية وتعدد أقاليمها, بعد الفتوحات, بحيث أصبح من المتعذر على الخليفة أن يدير كل أمورها ويباشر شئونها بنفسه, مع تباعد المسافات وتنوع المصالح, فلابد له من أن ينيب عنه في كل الأقاليم من يتولى أمورها ويرعى مصالحها.
كان النظام الإداري الذي وضعه يتألف من أمير يتولى قيادة المسلمين في الحرب, وإمامة الصلاة, وإقامة الحدود, والفصل في الأحكام, والدفاع عن الدين ومراعاته من أي تغيير أو تبديل.
وكان أغلب أمراء البلاد أول الفتح هم القادة الذين فتح الله على أيديهم تلك البلاد, فكان سعد بن أبى وقاص أميرا على العراق, وأبو عبيدة بن الجراح على الشام, وعمرو بن العاص على مصر. وقد اتخذ كل أمير دارا لتكون مقرا له سميت دار الإمارة, نزلها الأمراء من بعده وإلى جانب هذا الأمير عين موظفين آخرين, وهما صاحب الخراج المسئول عن الناحية المالية وجباية الخراج, والقاضي الذي كان يفصل بين المتخاصمين.
أما المدن والكور فقد عين لها من يقوم بإدارتها عسكريا وماليا وإن كان تسجيل الضرائب يقوم بها عمال من أهل البلاد, لعدم معرفة العرب بمثل هذه الأمور, وحين بدأ في تنظيم الدولة إداريا لم يبدأ من فراغ بل اقتدى بالسوابق والشواهد, يقول الطبري: " في العام الخامس عشر للهجرة دون عمر الدواوين, وفرض الفروض وأعطى العطايا على السابقة ".
1- ديوان العطاء أو ديوان الجند:-
يعرف أيضا بديوان الجيش أو العساكر, وهو أول ديوان في الإسلام, أنشأه الخليفة عمر بن الخطاب بعد أن تم للمسلمين الانتصار على الفرس في القادسية, إذ أمر عقيل بن أبى طالب ومخرمة بن نوفل, وجبير بن مطعم, وكانوا من كتاب قريش, أن يكتبوا أسماء الجند من العرب والموالى و وأوصافهم وأنسابهم وترتيبهم ورواتبهم, على أساس القرابة من الرسول(), والسابقة في الإسلام, وحسن الأثر في الدين, خلافا لخطة أبى بكر في التسوية بين الناس في العطاء.
وقد شدد عمر بن الخطاب على ضرورة الالتزام بالجندية والتفرغ التام لها حتى لا ينشغل الجنود بأعمال أخرى كالزراعة مما يستدعى استقرارهم وارتباطهم بالأرض وإهمال أمر الجهاد, لذا كان تخلف بعض أعضاء الديوان من الأكفاء عن الحرب سببا في إسقاط أرزاقهم.
ويقول الماوردي: إن هذا الديوان يختص بالجيش من إثبات وعطاء, وإثبات الجند في الديوان معتبر بشروط ثلاثة, أولها الوصف الذي يجوز به إثباتهم, وثانيهما السبب الذي يستحق به العطاء, وثالثهما: الحال التي يقدر وفقها عطاؤهم.
أما شرط جواز إثباتهم, فيرى أن يراعى فيه خمسة أوصاف:
أولا: البلوغ, فإن الصبي من جملة الذراري المفروض لهم في ديوان العطاء, وهذا ما جعل البعض يفرقون بين ديوان الجند وديوان العطاء.
ثانيا: الحرية, ذلك أن المملوك تابع لسيده داخل في عطائه.
ثالثا: الإسلام للدفاع عن الملة باعتقاده, ويوثق بنصحه واجتهاده, فإن أثبت فيهم ذميا لم يجز, وان ارتد منهم مسلم سقط.
رابعا: السلامة من الآفات .
خامسا: الإقدام على الحروب ومعرفة القتال.
2- ديوان الخراج أو الاستيفاء:-
اقتضت الضرورة أيضا مع زيادة الدخل والصرف أن تهتم الدولة الإسلامية بإنشاء ديوان الخراج, الذي أمر بتأسيسه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب, فأمر بمسح الأرض المفتوحة وتقدير الضرائب عليها بشكل يتناسب مع حالتها وما تدره من محصول ويرتبط بهذا الديوان "بيت المال" وهو خزينة الدولة التي يصرف منها على المصالح العامة, وهى مقيدة في سجلات عند الإيداع أو الصرف, وأهم موارد بيت المال الخراج, والجزية, الزكاة, والفيء, الغنيمة وغيرها.
وقدرت الدولة الإسلامية زمن الخلفاء الراشدين الخراج إما بشكل نقدي أو بشكل عيني بحصة مما تنتجه الأرض المنزرعة, واشترط فيمن يتولى إدارة الخراج أو جمع الخراج, العلم بالشرع والعفة والبعد عن الظلم, فكان الخليفة عمر بن الخطاب يحاسب عماله وولاته على ما لديهم من أموال إذا تشكك في طريقة جمعها.
وتأتى الجزية مقابل الزكاة, فتفرض على أهل الذمة, مقابل حمايتهم, وتمتعهم والكف عنهم, غير أنها لا تتساوى في قدرها, وإنما تتدرج حسب القدرة, ثم يعفى منها الفقراء والشيوخ والأطفال.
أما الفيء فهو المال الذي يصل إلى أيدي المسلمين دون قتال ويعتبر أيضا من موارد بيت المال, وقد تحدد مجال صرفه في أوجه الخير باجتهاد الفقهاء مع اختلاف طفيف في تحديد هذه المصارف. واعتبرت الغنيمة من أهم موارد بيت المال ولكنها تختلف عن الفيء لأنها كل مال يحصل عليه المسامون عن طريق الحرب فيقسم على الغانمين بعد تقسين الخمس على مستحقيه, عمل بقوله تعالى: "واعلموا إنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل" (الأنفال آية41).
وقد عرف ديوان الخراج أيضا بديوان الاستيفاء, وفي ذلك يقول الماوردي: "أما ديوان الاستيفاء وجباية الأموال فجرى هذا الأمر فيه بعد ظهور الإسلام بالشام والعراق على ما كان عليه من قبل, فكان ديوان الشام بالرومية لأنه من ممالك الروم, وديوان العراق بالفارسية لأنه من ممالك الفرس".
والأصل في قيام هذا الديوان حاجة الدولة إلي إحصاء خراج البلاد المفتوحة وتنظيم الإنفاق في الوجوه التي يجب الإنفاق فيها. وبعبارة أخرى هو موضوع لمعرفة دخل الدولة الإسلامية, وما ينفق من هذا الدخل ثم تحديد وجوه الإنفاق ومعرفة كيفية هذا الإنفاق.
وقد وضع الإسلام أحكاما فيما يختص بالأرض المفتوحة, ففيما يتعلق بالأرض التي تفتح وقد أسلم أهلها عليها فهي لهم, ملك أيمانهم وهى أرض عشر, والأرض التي فتحها المسلمون صلحا على خراج معلوم فهي على ما صولحوا عليه لا يلزمهم أكثر منه ,أما الأرض التي فتحت عنوة, فقد اختلفت من حولها الآراء: قيل إنها تعامل معاملة الغنيمة فتخمس وفق قانون تقسيم الغنيمة , وتقام خطط الجنود على الأربعة أخماس المستحقة لهم, وأما الخمس الباقي فلله وللرسول, وقيل أنها ترجع إلي ولى الأمر إن شاء خمسها وإلا فيجعلها فيئا فلا يخمسها ولا يقتسمها بل يجعلها وقفا على المسلمين عامة ما بقوا.
وكانت أول مشكلة صادفت عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالنسبة للخراج هي أرض السواد (الجزيرة العراقية) وكانت قد فتحت عنوة. فاستشار كبار الصحابة فاختلفوا حولها , فذهبت طائفة على رأسها عبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وبلال بن رباح, إلى تقسيمها بين القائمين باعتبارها فتحت عنوة فيكون حكمها حكم الغنيمة.
أما الطائفة الثانية وعلى رأسها الخليفة عمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب وطلحة, فكانت تعارض القسمة وروى أن عليا قال لعمر: "إن قسمتها اليوم لم يكن لمن يجيء بعد ناشئ, ولكن نغرقها في أيديهم يعملون بها فتكون لنا ولمن جاء بعدنا".
القضاء :-
شغلت قضية العدل بال الخليفة عمر بن الخطاب, فكان يهدف إلي تحقيقه في أرجاء الدولة الإسلامية. فشدد أوامره على ولاة الأقاليم أن يراعوا العدل في أمصارهم, وأن يراعوا الله في الرعية, فهو أول من استقضى القضاة في الأمصار.
وقد سبق أن ذكرنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد تولى القضاء في المدينة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه, فلما استخلف على المسلمين أولى القضاء عناية فائقة, وقام بفصله عن السلطة التنفيذية, وأرسل قضاته إلى الأمصار, وحدد سلطة ولاة الأقاليم بالنسبة إليهم ومنعهم من التعرض للقضاة.
وتشهد مجالسه القضائية في المدينة, أنه رضي الله عنه ما كان يخشى إلا الله, ولم يفرق في مجلسه بين غنى وفقير, فالمسلمين أمام الله سواسية, ومن ثم كان عمر رضي الله عنه شديدا في الحق وبذل ما وسعه الجهد من أجل أن يعم العدل أرجاء الدولة الإسلامية.
وقد شهد القضاء الإسلامي في عهده خطوة هامة على طريق التطور, ويؤكد ذلك, ما كتبه إلى ولاته وقضاته على الأقاليم , ومن أهم كتابه إلى أبى موسى الأشعري "عبد الله بن قيس" حين ولاه قضاء الكوفة, حيث ضمنه بنودا تشكل دستورا لقضاء المسلمين منها:-
1- المساواة بين المتخاصمين في مجلسه ووجهه, حتى لا يطمع شريف في حيفه, ولا ييأس ضعيف من عدله.
2- الصلح جائز بين الناس إلا ما أحل حراما أو حرم حلالا.
3- مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. فإن حكم في قضية ثم تراجع بعد أن اهتدى إلى رشده فعليه الرجوع إلى الحق.
4- أن يقيس الأمور, ثم يعمد إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق فيما يرى, إذا كانت مما ليس في قرآن ولا سنة.
5- أن يجعل لمن ادعى حقا غائبا أمدا ينتهي إليه, فإن أحضر بنية أخذ بحقه, وإلا استحل عليه القضاء.
6- المسلمون عدول في الشهادة إلا مجلودا في حد أو مجربا عليه شهادة زور, أو ظنينا في ولاء أو قرابة.
ومن هنا يتضح أن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان حريصا على أن يوضح لقضاته الأسس التي يجب أن يسير القاضي وفقها في قضائه, كما أنه اجتهد أن يسهر الولاة على رعاية العدل, وحماية القضاء, وقد أدت تنظيماته الإدارية عامة والقضائية بصفة خاصة إلى رفع الظلم بكل أنواعه عن الناس.
الفتوحات الإسلامية في عهد الخليفة
عمر بن الخطاب رضي الله عنه
1- فتح العراق:-
كان العراق خاضعا للحكم الفارسي, حيث ظل تابعا للإمبراطورية الساسانية حتى جاء الفتح الإسلامي سنة 13هـ, وقد تم فتح العراق على مرحلتين. الأولى: قام بها كل من: خالد بن الوليد, والمثنى بن حارثة الشيباني, وأبو عبيد بن مسعود الثقفي في خلافة أبى بكر الصديق وبداية خلافة عمر بن الخطاب. الثانية: قام بها سعد بن أبى وقاص, والنعمان بن مقرن المزني في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وقد كانت المرحلة الأولى أشبه بالغارات التي كانت تشنها القبائل العربية قبل الإسلام, ولم تأت بنتائج حاسمة, بينما كانت المرحلة الثانية مستقرة وثابتة أدت إلى نتائج حاسمة وهى القضاء على دولة الأكاسرة نهائيا.
وكانت أول معركة وقعت بين خالد بن الوليد و الفرس هي معركة الأبُلّة, وقد انتصر فيها المسلمون, ثم كانت موقعة ذات السلاسل(12هـ) حيث وصلت أنباء الزحف الإسلامي على العراق إلى هرمز حاكم الأبُلّة, فكتب إلى أردشير بن شيرى, واستعد للقائهم , وقيد جنوده أنفسهم بالسلاسل حتى يصمدوا أمام المسلمين, غير أن المسلمين تمكنوا من تحقيق النصر عليهم, وقتل هرمز في هذه المعركة. ثم تمكن المسلمون من تحقيق النصر في عدة مواقع متتالية, كما كان النصر حليفا لخالد بن الوليد في كل موقعة خاضها ضد الفرس, إلى أن أمره الخليفة أبو بكر الصديق بالتوجه إلى الشام لمساعدة الجيوش الإسلامية التي أرسلت إلى هناك, فعهد خالد إلى المثنى بن حارثة بقيادة من بقى من المسلمين والذي اضطرته الظروف أمام ضغط الفرس إلى أن يذهب إلى المدينة ليطلب من أبى بكر رضي الله عنه إمداده بقوة تمكنه من تثبيت أقدام المسلمين لأنهم كانوا يخشون قوة الفرس, إلا أن الخليفة أبى بكر توفى, وتولى عمر بن الخطاب الذي ندب الناس للتوجه إلى العراق.
عهد عمر بقيادة الجيش إلى أبى عبيد بن مسعود الثقفى الذي اتجه إلى الحيرة واستردها من الفرس, ثم التقى بالفرس في معركة "الجسر" حيث نزل جيش كسرى على الناحية الشرقية للفرات, ونزل المسلمون على الناحية الغربية, فبعث قائد الفرس إلى أبى عبيد يقول له: إما أن تعبر إلينا وإما أن نعبر إليكم , فأمر أبو عبيد أصحابه بالعبور, غير ملتفت إلى اعتراض أصحابه وقال: "لا يكونوا أجرأ على الموت منا " فعبروا إليهم واقتتلوا قتالا عنيفا, وأصيب أبو عبيد في المعركة, وأخذ الراية منه المثنى بن حارثة, ثم قطعوا الجسر حتى يستميتوا في قتال الفرس فغرق كثير من المسلمين قدرتهم المصادر بأربعة آلاف ما بين قتيل وغريق, وقتل أبو عبيد, وجرح المثنى وكانت هذه أول هزيمة للمسلمين أمام الفرس.
معركة البويب 23هـ:-
بالقرب من الكوفة, وكان على رأس الفرس "مهران" وعلى جيش المسلمين المثنى بن حارثة, وكانت طبيعة المعركة تشبه إلى حد كبير معركة الجسر, إلا أن الفرس عبروا هذه المرة, وأحاط بهم المسلمون, وقطعوا الجسر من خلفهم, وأبلى المسلمون بلاءا حسنا, وأنزلوا الهزيمة بالفرس, وقتلوا قائدهم مهران, وسميت المعركة بيوم الأعشار ذلك أن كل مسلم قتل يومها عشرة من الفرس.
موقعة القادسية 24هـ:-
كان من أثر الهجمات التي كان المسلمون يشنونها على مدن العراق وفارس أن تكتل الفرس وتجمعوا حول يزدجر بن شهريار, واهتم رستم بمهمة تعبئة الجيوش وقيادتها لصد المسلمين وإخراجهم من البلاد, حتى وصل عدد جيوشهم مائة وعشرين ألفا ومعهم ثلاثين فيلا.
ولذلك كتب المسلمون إلى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعلمونه بكثرة من تجمع لهم من أهل فارس. ويسألونه المدد, وعرض عمر الأمر على كبار الصحابة حتى استقر الرأي على إرسال سعد بن أبى وقاص, فخرج قاصدا العراق ومعه أربعة آلاف مقاتل, ثم أمده الخليفة بعد خروجه بمدد إضافي بأربعة آلاف مقاتل, ألفين من بني نجد وألفين من اليمن, ثم أربعة آلاف آخرين معظمهم من تميم, وثلاثة آلاف من بني أسد. وأمرهم أن يقيموا بين الحزن والبسيطة وبذلك يكونوا بين سعد بن أبي وقاص والمثنى بن حارثة.
وبينما كان سعد بن أبى وقاص ينتظر المثنى, والمثنى ينتظر قدوم سعد توفى القائد المثنى بن حارثة متأثرا بجراحه في موقعة الجسر.
كان جيش رستم زهاء مائة وعشرين ألف. وأرسل رستم إلى سعد يسأله توجيه أحد الصحابة إليه, فوجه المغيرة بن أبى شعبة, فلما وصل إليه, قال له رستم: قد علمت أنه لم يحملكم على ما أنتم فيه إلا ضيق العيش وشدة الجهد, ونحن نعطيكم ما تتشبعون به, ونصرفكم ببعض ما تحبون. فقال المغيرة: إن الله بعث إلينا نبيه صلى الله عليه وسلم, فسعدنا بإجابته وإتباعه, وأمرنا بجهاد من خالف ديننا "حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" ونحن ندعوك إلى عبادة الله وحده, والإيمان بنبيه صلى الله عليه وسلم, فإن، فعلت وإلا فالسيف بيننا وبينكم. فغضب رستم وقال: والشمس والقمر لا يرتفع الضحى غدا حتى نقتلكم أجمعين. فقال المغيرة: لا حول ولا قوة إلا بالله. وانصرف عنه.
ثم وجه سعد إلى ملك الفرس وفدا يدعوه إلى الإسلام – بأمر الخليفة – فأتوه وعرضوا عليه الإسلام, فغضب وأمرهم بالانصراف وقال: لولا أنكم رسل لقتلتكم. وكتب إلى رستم يعنفه على السماح لهم بالوصول إليه, ويذكر أن رستم قد أعجب بالعرب وبسديد إجابتهم حتى قال لأصحابه: أنظروا هؤلاء, لا يخلو أمرهم من أن يكون صدقا أو كذبا, فإن كانوا كاذبين فإن قوما يحفظون أسرارهم هذا الحفظ, ولا يختلفون في شيء وقد تعاهدوا على كتمان سرهم هذا التعاقد, بحيث لا يظهر أحد منهم سرهم لقوم في غاية الشدة والقوة, وإن كانوا صادقين فهؤلاء لا يقف حذائهم أحد.
بعد ذلك قرر رستم المضي في حرب المسلمين, واقتتلوا أياما, اليوم الأول (يوم أرماث ), والثاني ( يوم أغواث ), والثالث (يوم عماس ). وكانت خطة الفرس تقديم الفيلة لتوهين أمر المسلمين, ثم يشدو بعد ذلك.
أما المسلمين فقد أوكل قائدهم سعد بن أبى وقاص أمر الفيلة إلى عاصم بن عمرو التميمي وأخيه القعقاع , وكان سعد قد سأل بعض الفرس الذين أسلموا عن مقتل هذه الدابة, فقيل له عيونها, فركزوا عليها, فرجعت الفيلة وطرحت من عليها من الرجال وهربت من أرض المعركة, واستمر القتال بين المسلمين والفرس يومي الخميس والجمعة وليلة السبت, وقد نصر الله جنده, وهزم المجوس, بفضل شجاعة المسلمين, وانعكاس الريح على الفرس حتى أعماهم الغبار, فقتل رستم وعدد كبير من جنده, وهرب الباقون.
نتائج القادسية :-
نصر الله الإسلام, وفتح على المسلمين أرضا من فارس, وقتل رستم ورجاله وقادة جيشه, واستشهد كثير من المسلمين وارتد الفرس إلى المدائن, ومن ثم أصبح الطريق أمام المسلمين مفتوحا إليها, وقد كانت وقعة القادسية بداية فعلية لزوال ملك فارس. وأرسل المسلمون إلى الخليفة ببشرى الفتح, فقام عمر في الناس وقرأ سورة الفتح حمدا لله على ما أفاء على الإسلام.
وفى سنة 16هـ تم للمسلمين فتح المدائن واستولوا على قصور كسرى, وفرت جيوش الفرس إلى جلولاء وتتبعهم المسامون بقيادة سعد بن أبى وقاص فهزموهم, وقتلوا عددا كبيرا منهم, وفر يزدجر إلى حلوان, ولم يستطع أن يلم شتات جنده ويستعد لملاقاة العرب من جديد إلا بعد أربع سنوات. فقد أرسل سعد ابن أبى وقاص جيشا من ثلاثة آلاف رجل بقيادة جرير بن عبد الله البجلى إلى حلوان ففتحها صلحا, وفر يزدجر إلى نواحي أصبهان (19هـ).
وفى سنة 20هـ تجمع حول يزدجر مقاتلون من الري وأصبهان وهمدان وغيرها حتى بلغ مائة ألف مقاتل, فلما سمع الخليفة عمر بذلك ولى النعمان بن مقرن المزني قيادة الجيش المتوجه إلى نهاوند سنة 21هـ وكتب الله النصر للمسلمين رغم كثرة الفرس واستماتتهم في الدفاع عن إمبراطوريتهم المتداعية, وكان النعمان بن مقرن أول شهداء المسلمين يوم نهاوند, فحمل الراية حذيفة بن اليمان ففتح الله عليه. وغنم المسلمون غنائم, وقد عرفت هذه الموقعة (نهاوند) بفتح الفتوح, فبعدها لم تقم للفرس قائمة تذكر, فقد سار المسلمون إلى الأهواز وفتحوها سنة 22هـ, ثم فتحوا أصبهان صلحا, كذلك فتحت الري. وكانت سنة 22هـ حافلة بالفتوحات الإسلامية في فارس. وكان الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يرمى إلى القضاء على ملك الأكاسرة. وقد قام المغيرة بن شعبة عامل الكوفة بغزو أذربيجان وفتحها عنوة وفرض عليها الخراج.
أما يزدجر الثالث, فقد ظل المسلمون يطاردونه ويستولون على بلاده, حتى اضطر إلى الفرار إلى أقصى الحدود الشرقية حتى قتل في خراسان في خلافة عثمان بن عفان سنة 31هـ. وبموته زالت الدولة الساسانية.
2-فتح الشام وفلسطين:-
كانت بلاد الشام خاضعة للإمبراطورية البيزنطية حتى تعرضت للفتح الإسلامي وقد بدأت حركة الفتح الإسلامي لبلاد الشام في عهد الخليفة أبى بكر الصديق, ويمكن تقسيمها إلى فترتين: الأولى: التي قام بها القادة الأربعة الذين أرسلهم أبو بكر الصديق وهم أبو عبيدة بن الجراح, ويزيد بن أبى سفيان وعمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة
الفترة الثانية: وتبدأ بتجمع المسلمين في اليرموك ووصول خالد بن الوليد.
أنفذ أبو بكر الصديق أربعة جيوش لفتح الشام تحت إمرة أربعة قادة:-
1-أبو عبيدة بن الجراح إلى حمص.
2- عمرو بن العاص إلى فلسطين.
3- يزيد بن أبى سفيان إلى دمشق.
4- شرحبيل بن حسنة إلى وادي الأردن.
واصطحب كل واحد منهم ثلاثة آلاف مقاتل أول الأمر ثم أتبعهم بالعديد من الرجال حتى بلغ عدد هذه الجيوش أربعة وعشرين ألفا.
وكانت أول معركة وادي عربة جنوب فلسطين, وانتصر فيها المسلمون على البيزنطيين, إلا أن تجمع البيزنطيين أشعر قادة المسلمين بهذه القوة, فكتب عمرو بن العاص إلى الخليفة أبى بكر الصديق يعلمه كثرة عدد العدو وسعة أرضهم, فكتب أبو بكر الصديق إلى خالد بن الوليد وهو بالعراق يأمره بالتوجه إلى الشام. حيث تجمع المسلمون في وادي اليرموك, وتسلم خالد القيادة. بينما تجمعت جيوش البيزنطيين على نهر اليرموك ومن ورائهم هرقل يمدهم بالمؤن والرجال, وكان على رأس الجيش باهان والقساوسة لتحريضهم على القتال بالإضافة إلى جبلة بن الأيهم أمير غسان ومعه ستون ألف من العرب المنتصرة.
وأمام هذا الجيش النظامي وقف المسلمون تدفعهم الحماسة الدينية, وخلال هذه الفترة حدثت معركة أجنادين في جنوب فلسطين حين حاول هرقل أن يقطع على المسلمين إمدادات الخلافة ليتمكن من ضرب المسلمين من الخلف, لكن المسلمين اتجهوا إلى أجنادين تاركين بعض قواتهم في اليرموك, وكان قائد المسلمين خالد بن الوليد, وانتهت هذه المعركة بانتصار المسلمين سنة 13هـ.
وبعدها عاد المسلمون إلى اليرموك حيث وقعت المعركة الحاسمة التي انتصر فيها المسلمون, وقتل من الروم أكثر من مائة ألف بينما استشهد من المسلمين ثلاثة آلف مقاتل من بينهم عدد من كبار الصحابة.
وبعد هذه المعركة الحاسمة التي حدثت سنة 13هـ فى آخر أيام الخليفة أبى بكر الصديق, تولى عمر بن الخطاب الخلافة وأمر خالد بن الوليد بتسليم القيادة إلى أبى عبيدة بن الجراح , فامتثل امتثال الجندي المخلص قائلا: (إني لا أحارب من أجل عمر ولكن أحارب من أجل رب عمر).
اتجه أبو عبيدة بن الجراح نحو دمشق لكنه قبل أن يصلها علم أن هرقل جمع جيشا كبيرا, فاتجه لملاقاة الروم, وانتهت المعركة بفوز المسلمين وفرار الروم. ثم اتجه المسلمون نحو دمشق, فاصطدموا بجيش للروم عند مرج الصفر, فهزموه, وعندما اقتربوا من دمشق تحصن أهلها فحاصروه حوالي أربعة شهور, واستغل خالد ابن الوليد ومعه القعقاع بن عمرو ليلة عيد النصارى, وقد أنستهم الخمر واجب الدفاع عن أسوار دمشق, فاقتحموا السور وقصدوا الباب, وقتلوا الحراس وفتحوه, ودخل المسلمون وكبروا فلما عرف والى المدينة البيزنطي, أسرع بالاتصال بأبي عبيدة, وفتح له الأبواب صلحا.
وبعد فتح دمشق اتجهت الجيوش الإسلامية كل إلى وجهته، فتوجه شرحبيل بن حسنة إلى الأردن ففتح مدنها بيسان وجرش وغيرها وكان فتحها يسيرا على المسلمين.
واتجه عمرو بن العاص إلى فلسطين قاصدا بيت المقدس حيث اصطدم بالقائد البيزنطي الشهير أرتبون (الأرطبون) واستطاع عمرو أن ينتصر عليه, ثم تقدم إلى بيت المقدس, وقد تحصن بها أهلها, فحاصرها عمرو مدة أربعة أشهر حتى فكر أهلها في الصلح , لكنهم اشترطوا أن يحضر الخليفة عمر بنفسه ليأمنهم على كنيستهم الكبرى, فكتب عمرو إلى الخليفة, فحضر إلى بيت المقدس, وكتب لأهلها كتابا أمنهم فيه على أنفسهم وكنيستهم وأموالهم ودينهم (فيما عرف بالعهدة العمرية). كما كتب لبقية مدن الشام كتب مماثلة.
ثم اتجه أبو عبيدة ومعه خالد بن الوليد إلى حمص التي كانت مركزا لهرقل فجمع هرقل للمسلمين الجموع, وبلغ المسلمين ذلك, فرد أبو عبيدة على أهل حمص ما كانوا أخذوه منهم من الخراج, وقال شغلنا عن نصرتكم , والدفع عنكم فأنتم على أمركم, فقال أهل حمص للمسلمين: لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم ولندفعن جيش هرقل عن المدينة مع عاملكم.
والتقى المسلمون بالبيزنطيين وهزموهم بمعاونة أهل حمص الذين فتحوا مدينتهم للمسلمين, وأخرجوا منها البيزنطيين, وأدوا الجزية طائعين.
ثم سار أبو عبيدة إلى جند قنسرين وإنطاكية, وفتحها بعد فرار هرقل وابنه إلى القسطنطينية. وهكذا تم فتح بلاد الشام في مدة قصيرة لم تتجاوز ثلاث سنين حيث انتصر المسلمون في اليرموك ودخلوا بيت المقدس سنة 16هـ, وإنطاكية سنة 17هـ.
1- فتح مصر:-
تطلعت أنظار العرب إلى مصر بعد فتح الشام, لاسيما بعد انسحاب القائد البيزنطي الشهير (ارتبون) الأرطبون المعروف بالدهاء والمكر إلى مصر, مما يضعف موقف المسلمين بالشام, ثم إن البيزنطيين أعدوا حملة بحرية سنة 638م أبحرت من الإسكندرية بقيادة قسطنطين بن هرقل, وألقت مرساها بأنطاكية شمال الشام واستولت عليها. ومع أن أبو عبيدة بن الجراح تصدى لها وأجبرها على الانسحاب والعودة إلى الإسكندرية إلا أن هذا الأمر لفت نظر المسلمين إلى خطورة بقاء مصر في أيدي البيزنطيين.
ولما عقد الخليفة عمر مؤتمر الجابية بالشام شرح عمرو بن العاص, قائد الميدان الجنوبي المتاخم لمصر, حقيقة الموقف الحربي للمسلمين بالشام وخطورته طالما ظلت مصر في قبضة البيزنطيين. وكتب عمرو في ختام تقريره إلى الخليفة قائلا: "انك إن فتحتها كانت قوة للمسلمين وعونا لهم".
ويبدو أن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه تردد في قرار الفتح في بادئ الأمر إشفاقا على المسلمين, وخشية من التوسع في الفتح قبل أن تثبت أقدام المسلمين في البلاد المفتوحة, لكن عمرو بن العاص هون عليه أمر الفتح, وذكر له أنه دخلها في الجاهلية, وخبر مسالكها, وعرف طيب تربتها وخصوبة أرضها, وعظيم ثروتها وخيرها, وأوضح له أن فتحها يثبت أقدام المسلمين في الشام وفلسطين ويؤمنها من الناحية الجنوبية, فضلا عن نشر الإسلام في هذه البقعة من أملاك بيزنطة.
فوافق الخليفة له على السير, وعقد له على أربعة آلاف رجل. وقال له: "سر وأنا مستخير الله في مسيرك, وسيأتيك كتابي سريعا إن شاء الله, فإن أدركك كتابي آمرك فيه بالانصراف عن مصر قبل أن تدخلها أو شيئا من أرضها فانصرف. وإن أنت دخلتها قبل أن يأتيك كتابي هذا فامض لوجهك واستعن بالله واستنصره.
فسار عمرو بالناس في جوف الليل, ولم يشعر به أحد, واستخار عمر بن الخطاب الناس فكأنه تخوف على المسلمين, فكتب إلى عمرو بن العاص أن ينصرف بمن معه من المسلمين, فأدركه الكتاب وهو برفح , فتخوف عمرو إن هو فتح الخطاب أن يجد فيه أمر بالانصراف, فلم يأخذه من الرسول, وسار حتى نزل قرية فيما بين رفح والعريش, فسأل عنها فقيل له إنها من مصر, فأخذ الكتاب, فقرأه على المسلمين, فقال عمرو لمن معه: ألستم تعلمون أن هذه القرية من مصر؟ قالوا: بلى, قال: إن أمير المؤمنين عهد إلى وأمرني إن لحقني كتابه ولم أدخل مصر أن أرجع بكم, ولم يلحقني كتابه حتى دخلنا أرض مصر, فسيروا وامضوا على بركة الله.
مراحل الفتح:-
1- من قيسارسة إلى العريش:-
سار عمرو بجيشه من قيسارية بفلسطين حتى وصل العريش في أوائل سنة 19هـ وفتحها دون مقاومة تذكر, نظرا لقلة عدد الحامية البيزنطية بها وضعف حصونها. ثم تابع سيره حتى وصل الفرما (شرقي بورسعيد) فدخل مع البيزنطيين في قتال شديد استمر نحوا من شهر ثم فتحها الله على يديه.
2- من بلبيس إلى أم دنين:-
بعد ذلك اتجه عمرو صوب بلبيس واستولى عليها بعد قتال عنيف استمر أشهرا. ثم سار من بلبيس حتى وصل أم دنين (حي الأزبكية حاليا) وهناك نشب القتال بينه وبين البيزنطيين المتحصنين في بابليون, ودام القتال عدة أسابيع تمكن بعدها من الاستيلاء على ميناء أم دينين ثم توقف عن القتال, وطلب من الخليفة مددا حتى يتمكن من فتح حصن بابليون فأمده بأربعة آلاف عليهم أربعة من كبار الصحابة: (الزبير بن العوام – عبادة بن الصامت – مسلمة بن مخلد – المقداد بن الأسود).
3- فتح حصن بابليون:-
لم يبق أمام عمرو سوى حصن بابليون مقر القيادة البيزنطية, فتقدم إليه وحاصره وطال أمد الحصار سبعة أشهر. وفي هذه الفترة دارت المفاوضات بين المقوقس وعمرو بن العاص, وكان مندوبه فيها عبادة بن الصامت, الذي قال للمقوقس: "ليس بيننا وبينكم إلا إحدى خصال ثلاث, إما أن دخلتم في الإسلام فكنتم إخواننا وكان لكم مالنا وعليكم ما علينا, وإن أبيتم فالجزية عن يد وأنتم صاغرون, وإما القتال حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين".
وقد أدى فشل المفاوضات إلى نشوب القتال, الذي أبدى فيه المسلمون شجاعة فائقة. وفي أثناء القتال تقدم الزبير بن العوام, وأتى بسلم, ووضعه بجانب الحصن, وصعد عليه وكبر, فكبر معه المسلمون, فما شعر الروم إلا بالزبير على رأس الحصن, فلم يشكوا في أن المسلمين اقتحموه. ونتيجة لذلك طلب المقوقس الصلح مع المسلمين فأجابهم عمرو بن العاص وعقد معهم الصلح الذي عرف باسم صلح بابليون.
وقيل أن المقوقس صالح عمرو بن العاص على أن يفرض على القبط دينارين دينارين على كل رجل منهم.
4- فتح الاسكندرية:-
بادر عمرو غداة فتح بابليون بالزحف على الإسكندرية, عاصمة البيزنطيين, وما أن وصلها حتى ضرب عليها الحصار لمدة أربعة عشر شهرا, وقد أرسل إليه الخليفة عمر بن الخطاب كتابا يستفسر فيه عن أسباب تأخر فتحها ويستنهضه للقتال, مما جعل عمرو يضيق الخناق على الإسكندرية, ويواصل القتال حتى طلب الروم الصلح بعد أن يئسوا من وصول الإمدادات البيزنطية إلى الإسكندرية, وضعف حكومة بيزنطة بعد موت هرقل سنة20هـ. ومقاومة أهل الإسكندرية للبيزنطيين بعد طرد بطريقها بنيامين, واقتناعهم بأن حكم المسلمين خير من حكم الروم.
وقد جاءت بنود صلح الإسكندرية على النحو التالي :-
1- أن يدفع كل من فرضت عليه الجزية دينارين في كل سنة ويعفى الشيوخ والنساء والأطفال من دفعها.
2- أن تكون مدة الهدنة بين المسلمين والبيزنطيين أحد عشر شهرا.
3- منع جميع العمال الحربية أثناء تلك الهدنة.
4- ألا يتعرض المسلمون لكنائس المسيحيين, ولا يتدخلوا في أمورهم أي تدخل.
5- ألا يعود جيش الروم إلى مصر أو يسعى لردها.
6- أن يحتفظ المسلمون ب(150) من جنود البيزنطيين و (50) مدنيا رهائن ضمانا لتنفيذ العقد.
7- أن يباح لليهود الإقامة في الإسكندرية.
8- أن ترحل الحامية البيزنطية من الإسكندرية ومعها ما يملكون ومن أمتعة, وأن يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
ولما تم للمسلمين فتح المدينة وضع عمرو بن العاص نظاما خاصا في الدفاع عنها خشية أن يأتي الروم إليها للانتقام من المسلمين. وكانت نصيحة الخليفة له ألا يغفل أمر الدفاع عنها, وأن يكثف رابطتها, فإن الروم لا يؤمن جانبهم, كما أن الخليفة كان يرسل في كل سنة غازية من أهل المدينة ترابط الإسكندرية
وهكذا تم فتح مصر على يد عمرو بن العاص, وزال سلطان الروم عنها إلى الأبد ونعم المصريون بعدالة الإسلام, وأشركوا عمرو بن العاص في إدارة شئون البلاد. فمنحهم الحرية الدينية التي حرموها في عهد البيزنطيين, وألغى عنهم الكثير من الضرائب البيزنطية التي كانت تثقل كاهلهم مما جعل المصريين يهرعون إلى الدخول في الإسلام.
استشهاد عمر رضي الله عنه في ذي الحجة سنة 23هـ:-
قتله أبو لؤلؤة فيروز المجوسي غلام المغيرة بن شعبة, إذ طعن الخليفة بخنجر أعطاه له الهرمزان حقدا وحسدا على العرب والمسلمين الذين أزالوا ملك الفرس ومجدهم.
وهكذا قتل عمر رضي الله عنه بيد آثمة غريبة عن الإسلام. وعلق على ذلك رضي الله عنه بقوله: "الحمد لله الذي لم يجعل قاتلي يحاجني عند الله بسجدة سجدها له قط, ما كانت العرب لتقتلني"
خلافة عثمان بن عفان
(23-35هـ )
ولد عثمان بن عفان بن أبى العاص بن أمية في السنة السادسة من عام الفيل, وهو من السابقين الأولين إلى الإسلام, دعاه إليه أبو بكر الصديق, فأسلم وزوجه النبي صلي الله عليه وسلم ابنته رقيه, وهاجر بها إلى الحبشة الهجرة الأولى والثانية, ولما توفيت أثناء غزوة بدر زوجه الرسول ابنته أم كلثوم, فتوفيت عنده سنة 9هـ ولذلك لقب (ذو النورين ) و واشترك مع النبي صلي الله عليه وسلم في جميع الغزوات إلا غزوة بدر لانشغاله بتمريض زوجته رقيه التي توفيت ودفنت في اليوم الذي انتصر فيه المسلمين, فعده النبي() من البدريين. وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة, وهو الذى جهز جيش العسرة (جيش تبوك )جهزه بنحو 950 بعيرا وأتمها ألفا بخمسين فرسا كلها من ماله الخاص, وهو الذي اشترى بئر رومة, وكانت بالمدينة ليهودي يستقي منها المسلمون بأجرة يدفعونها إلى ذلك اليهودي. فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: من يشتري بئر رومة وله مشربة من الجنة, فاشتراها عثمان بعشرين ألف درهم, وجعلها لعامة المسلمين يستقون منها دون أجر.
وقد بعثه النبي صلي الله عليه وسلم إلى قريش ليفاوضها في دخول المسلمين لأداء العمرة, وحبس عثمان وأشيع بين المسلمين أنه قتل فتبايع المسلمون بيعة الرضوان سنة 6هـ. وبعد وفاة النبي صلي الله عليه وسلم اتخذ أبو بكر عثمان بن عفان أمينا وكاتبا له يستشيره في مهام الأمور. وكانت أغلبية الشورى في جانبه بعد مقتل عمر رضي الله عنه.
بيعته بالخلافة:-
كان عمر رضي الله عنه يسأل, وهو صحيح أن يستخلف فيأبى, فلما طعن دخل عليه نفر من الصحابة فقالوا له: يا أمير المؤمنين ( لو استخلفت ) فقال: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير منى (يريد أبا بكر ) وإن أترك فقد ترك من هو خير منى (يعنى النبي صلى الله عليه وسلم ). ولكن عليكم بهؤلاء الرهط الذين مات رسول الله (ص) وهو راض عنهم ( على وعثمان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف ) فليختاروا منهم رجلا, فإذا ولوا واليا فأحسنوا مؤازرته وأعينوه, وإن ائتمن أحدا منكن فليؤدى إليه أمانته. وأضاف عمرو إلى هؤلاء الستة ابنه عبد الله في الاجتماع للتشاور على ألا يكون له منم الأمر من شيء.
وهنا يذكر المؤرخون ما وضعه عمر من النهج القويم الحكيم حتى لا تتفرق الكلمة و ليصلوا في مدة ثلاث أيام إلى اختيار من يتولى أمر المسلمين, ويروى أن عمر رضي الله عنه دعا أصحاب الشورى ,وقال لهم تشاوروا في أمركم, فإن كان اثنان واثنان, فارجعوا إلى الشورى, وإن كان أربعة واثنان فخذوا جانب الأكبر, وإن اجتمع رأى ثلاثة وثلاثة فاتبعوا جانب عبد الرحمن بن عوف واسمعوا وأطيعوا.
ويذكر المؤرخون أن أصحاب الشورى حين اجتمعوا قال لهم ابن عوف: لست بالذي أنافسكم في هذا الأمر, ولكنكم إن شئتم اخترت لكم منكم, فجعلوا ذلك إليه. وحينئذ قال الناس عليه يشاورونه, ودار عبد الرحمن بن عوف لياليه يلقى الصحابة ويشاورهم, ولا يخلو برجل إلا أمره بعثمان.
فلما انتهت المدة و جمع الناس في مسجد رسول الله صلي الله عليه وسلم ودعا عليا فقال: عليك عهد الله وميثاقه, لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده؟ قال: أرجو أن أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي ,ودعا عثمان فقال له مثل ما قال لعلى قال: نعم. فبايعه, وبايعه على, وصار عثمان الخليفة الثالث لرسول الله صلي الله عليه وسلم. وبعد أن بويع عثمان خطب في الناس ونصحهم نصائح دينية لا تتعلق بالسياسة التي عول عثمان على انتهاجها في إدارة شئون الدولة الإسلامية مكتفيا بما جاء في صيغة البيعة.
ولما ولى عثمان الخلافة انقسم المسلمون إلى أمويين يؤيدون عثمان, وعلويين مولين لعلى, وبعد فترة من حكمه غضب عليه كثير من المهاجرين والأنصار لإهماله شأنهم بعد اشتراكهم في الشورى, وإسناد المناصب إلى من هم دونهم سنا وكفاية لأنهم من ذوى قرباه.
وكان من أثر ذلك أن ثار عليه بعض رجال الكوفة والبصرة ومصر, وساروا إلى المدينة, حيث طالبوه بالتخلي عن الخلافة فرفض, فحاصروه في منزله ثم قتلوه يوم الجمعة 12 ذي الحجة سنة 35هـ والمصحف بين يديه, فنضح الدم على قوله تعالى: " فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم".
الفتوحات الإسلامية في عهد عثمان بن عفان:-
شهد عصر الخليفة عثمان بن عفان تقدم المسلمين برا وبحرا, حيث تم في عهده إنشاء أسطول إسلامي حينما سمع معاوية بن أبى سفيان بركوب البحر, ورغم أن الفتوحات في عهد عثمان كانت تجاه الغرب, إلا أنها حققت نجاحا في الشرق حيث تمكن المسلمون من الوصول إلى مشارف الهند.
1-غزوة أذربيجان وأرمينية 24هـ /644م :-
اختلفت الروايات حول غزو المسلمين إلى أذربيجان وأرمينية, فيرى الطبري أن المسلمين تقدموا بقيادة الوليد بن عقبة نحو أذربيجان وأرمينية, بسبب منع أهلها ما كانوا صالحوا عليه أهل الإسلام أيام عمر رضي الله عنه. بينما يذكر الواقدي أن الغزوة كانت بقيادة حبيب بن مسلمة الفهري. أما عن السنة التي تم فيها الفتح فيري أبى مخنف أنها كانت سنة 26هـ, بينما يرى الواقدي إنها كانت سنة31هـ.
أما عن تفاصيل هذا الفتح فيذكر أبى مخنف إن مغازى أهل الكوفة كانت الري وأذربيجان, فكان بهما عشرة آلاف مقاتل من أهل الكوفة, ستة آلاف بأذربيجان, وأربعة آلاف بالري, فغزا الوليد بن عقبة في إمارته على الكوفة في خلافة عثمان أذربيجان وأرمينية, حيث أرسل سلمان بن ربيعة الباهلي مقدمة له, بينما خرج الوليد بنفسه في جماعة من الناس حتى دخل أذربيجان, وبعد ذلك صالح الوليد بن عقبة أهل أذربيجان على ثمانمائة ألف درهم .
2- مواجهة الجيوش البيزنطية على حدود الشام:-
أراد الإمبراطور قسطنطين أن يعيد للدولة البيزنطية هيبتها التي ضاعت أمام الجيوش الإسلامية , التي كانت تواصل الفتوحات في أذربيجان وأرمينية. وفي طريق عودتهم وصل الوليد بن عقبة إلى الموصول ونزل الحديثة, فأتاه وهو بها كتاب الخليفة عثمان بن عفان, يأمره أن يرسل إلى الشام ثمانية آلاف أو تسعة آلاف أو عشرة آلاف نجدة لمعاوية بن أبى سفيان الذي يتعرض لهجمات جموع عظيمة من الروم فأرسل سلمان بن ربيعة الباهلي على رأس ثمانية آلاف رجل من أهل الكوفة, فمضوا حتى دخلوا الشام وانضموا إلى جيش الشام بقيادة حبيب ابن مسلمة بن خالد الفهري, فشنوا الغارات على أرض الروم, وفتحوا حصونا كثيرة وغنموا غنائم كثيرة.
معركة ذات الصواري:-
اختلف المؤرخون في تحديد زمن هذه المعركة, فيرى الطبري والواقدي أنها كانت عام واحد وثلاثين من الهجرة, بينما يذكر أبو معشر وابن عبد الحكم أنها كانت سنة 34هـ .
وكان عدد مراكب المسلمين فيها مائتا مركب ونيف, بينما كان أسطول الروم بقيادة قسطنطين بن هرقل ألفا مركب, وكان يقود أسطول المسلمين عبد الله بن سعد بن أبى سرح , وقد سميت بذات الصواري لكثرة المراكب التي شاركت فيها . ونسبة إلى صواري المراكب.
التقى أسطول المسلمين بأسطول الروم, فرماهم المسلمون بالنبل والنشاب, فلما نفذ النبل والنشاب, استخدم المسلمون الحجارة, ولما نفذت حجارتهم ربطوا مراكبهم بعضها إلى بعض, وأخذوا يقاتلون بالسيوف, وقد كان القتال شديدا, سواء بالسيوف أو الخناجر حتى رجعت الدماء إلى الساحل تضربها ألأمواج كما طرحت الأمواج جثث الرجال ركاما. ونصر الله المسلمين, وقتلوا من الروم عددا عظيما بحيث لم ينج منهم إلا الشريد.
4- فتح قبرص:-
قام معاوية بن أبى سفيان بعدة غزوات, حيث غزا مضيق القسطنطينية وفتح بعض الحصون والمدن القريبة منه فى حدود سنة 32هـ, كما غزا حصن المرأب من أرض الروم ناحية ملاطية. ويذكر أيضا أنه غزا قبرص بأمر الخليفة عثمان بن عفان سنة 27هـ, كما غزا قنسرين وصالح أهل بلخ.
ورغم أن فتح قبرص يعد من أهم هذه الفتوحات إلا انه لم يلق اهتماما كبيرا من المؤرخين, وربما كان ذلك بسبب انشغال المسلمين عامة بأمورهم الداخلية وعلى رأسها قضية الفتنة. وقد صالح معاوية أهل قبرص على جزية مقدارها سبعة آلاف دينار يؤدونها إلى المسلمين كل سنة, ويؤدون للروم مثلها, ولا يقاتلوا مع من يقاتل المسلمين من خلفهم وان يخبروا المسلمين بمسير من عدوهم من الروم إليهم.
وقيل أن غزو قبرص كان سنة 28 هـ, غزاها أهل مصر بقيادة عبد الله بن سعد بن أبى السرح.
5- إعادة فتح الإسكندرية سنة 25هـ/645م
هاجم الروم مدينة الإسكندرية, بواسطة أسطول يقوده منويل الخصي, فأجابهم من بها من الروم, وكان الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه قد عزل عمرو بن العاص, وولى عليها عبد الله بن سعد, فلما جاء الروم إلى الإسكندرية, سأل أهل مصر الخليفة عثمان أن يعيد عمرو بن العاص حتى يفرغ من قتال الروم, فإن له معرفة بالحرب وهيبة في العدو ففعل. وقاتلهم عمرو بن العاص حتى أمر برفع السيف عنهم, وبني في هذا الموقع مسجدا وهو المسجد الذي بالإسكندرية, ويقال له مسجد الرحمة, وقد سمى مسجد الرحمة لأن عمرو بن العاص رفع السيف عن الروم هنالك.
وقد قتل في هذه المعركة قائد الروم منويل الخصي, وأقام عمرو بن العاص بعد فتح الإسكندرية في ولاية مصر شهرا ثم عزله الخليفة وأعاد عبد الله بن أبى السرح.
6- فتح المغرب:-
كان عمرو بن العاص في ولايته الأولى على مصر قد بعث البعوث إلى المغرب فأصابوا فيها غنائم. ثم سار عمرو بن العاص حتى قدم برقة, وصالح أهلها على ثلاثة عشر ألف دينار يؤدونها إليه جزية, على أن يبيعوا من أحبوا من أبنائهم في جزيتهم. ولم يكن يدخل برقة يومئذ جابي خراج, إنما كانوا يبعثون الجزية إذا جاء وقتها, ثم وجه عمرو بن العاص عقبة بن نافع حتى بلغ زويلة وصار ما بين برقة وزويلة في أيدى المسلمين. ثم تقدم المسلمون نحو طرابلس.
ولما تولى عبد الله بن أبي السرح مصر كتب إلى عثمان بن عفان يستأذنه في فتح إفريقية فأذن له. وكان عبد الله بن أبي السرح يبعث المسلمين في جرائد الخيل كما كان يفعل عمرو بن العاص يفعل, فيصيبون أطراف افريقية ويغنمون, فلما وافق عثمان بن عفان على طلبه ندب الناس لغزوها, فلما اجتمع الناس أمر عثمان عليهم الحارث بن الحكم إلى أن يقدموا على عبد الله بن سعد مصر فيكون له الأمر. فخرج عبد الله بن سعد إليها, وكان سلطان افريقية يومئذ ملك يقال له جرجير, ويقيم في مدينة قرطاجنة, ولاه عليها هرقل, فخلع هرقل وضرب الدنانير باسمه, وكان سلطانه ما بين طرابلس إلى طنجة. فلما غزا عبد الله بن سعد إفريقية قتل جرجير, ثم صالح أهل إفريقية على الجزية.
ويبدو أن أهل افريقية رفضوا حكم المسلمين و ثاروا عليهم, فغزاهم عبد الله بن سعد مرة أخرى سنة30هـ/650م, وهى غزوته الثانية لهم, ثم غزاهم المسلمون مرة ثالثة في خلافة عثمان بن عفان سنة34هـ/654م بقيادة معاوية بن حديج. وكانت هذه غزوته الأولى لإفريقية حيث غزاها ثلاث مرات.
7- فتح النوبة:-
امتدت فتوحات عبد الله بن سعد جنوبا ليضم إليه أجزاء من بلاد النوبة. فغزاها سنة31هـ/651م, وقد اقتتل الفريقان قتالا شديدا, وأصيبت عين معاوية بن حديج. وقيل أن عبد الله بن سعد صالحهم على هدنة بينهم على أنهم لا يغزونهم ولا يغزو النوبة المسلمين, في مقابل أن يقدم المسلمون لهم مقدارا من القمح ومقدارا من العدس في كل عام.
الفتنة الكبرى في عهد عثمان
كان عثمان رضي الله عنه حسن الخلق, كريم الشمائل جوادا بماله, كما عرف بلين العريكة, وقد اتبع سياسة عمر رضي الله عنه في الاستفسار عن الولاة من الوفود وسؤال الرعية عن أمرائها, غير أن ذلك أدى إلى عكس ما كان يرجوه, إذ فسد الناس وكثر الدس على هؤلاء الولاة و واتخذ المغرضون من ذلك سبيلا للحط من شأنهم, كما كان بعض الولاة يدس إلى الخليفة من يمدحونه عنده.
وانتهز أعداء الإسلام من اليهود هذه الفرصة, وقام زعيمهم عبد الله بن سبأ, الذي دخل الإسلام للطعن فيه, بتحريك مشاعر الناس ضد الخليفة عثمان بن عفان وقد أشاع بين المسلمين أن عثمان قد أطلق لذوى قرباه الأمر دون سائر المسلمين وبدأ بالطعن على ولاة عثمان, فاستجاب له أهل الأمصار الكوفة والبصرة ومصر وطالبوه بخلع الولاة, ثم بعد ذلك طلبوا من الخليفة أن يعزل نفسه ولكنه رفض, فحاصروه في منزله, ثم قتلوه يوم الجمعة 12 ذي الحجة سنة35هـ (على نحو ما سبق ذكره).
الثورة على الخليفة :-
تركزت الثورة في مصر والعراق, ففي مصر وجدت آراء عبد الله بن سبأ المدمرة أذانا صاغية, استمعت للدخيل والغريب على الإسلام من آراء, تسربت بشكل مخيف إلى أهل مصر.
فقد دعي عبد الله بن سبأ وجماعته إلى رفض الخلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه وتأكيد عدم أحقيته فيها, وأظهروا أنهم مع على بن أبى طالب, وقال عبد الله بن سبأ لأهل مصر: إنه كان ألف نبي, ولكل نبي وصى, وكان على وصى محمد..... وإن محمد خاتم الأنبياء وعلى خاتم الأوصياء. ثم قال: من أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله(), ووثب على وصى رسول الله() وتناول أمر هذه الأمة. ورغم أن عثمان أخذها بغير حق و ودعي الناس: هذا وصي رسول الله, فانهضوا في هذا المر فحركوه وابدأوا بالطعن على أمرائكم, وأظهروا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر تستميلوا الناس, وادعوهم إلى هذا الأمر.
وقد كان لعبد الله بن سبأ دعاة في سائر الأقاليم, يدعون سرًا إلى ما عليه رأيهم, وأظهروا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فانتشرت آرائهم في الأمصار الإسلامية, وهم يريدون غير ما يظهرون, ويسرون غير ما يعلنون. فانتشرت أخبارهم في الحجاز ووصلت إلى المدينة, فأرسل عثمان بن عفان رضي الله عنه مبعوثه للأمصار, محمد بن مسلمة إلى الكوفة, وعمار بن ياسر إلى مصر, عبد الله بن عمر إلى الشام, كما أرسل غيرهم إلى باقي الأقاليم ليأتوه بالأخبار. وأدرك المسلمون في المدينة خطورة الموقف في الأمصار, وأن الخلافة تواجه موجة من العصيان, فكتب عثمان رضي الله عنه إلى أمراءه على الأقاليم يستشيرهم. فلما قرءوا كتاب عثمان بكى الناس, ودعوا لعثمان وقالوا: إن الأمة لتمخض بشر.
انتقال الثورة إلى المدينة (35هـ / 656م):-
ثوار مصر:-
خرج أهل مصر في شوال سنة 35هـ في أربع فرق ما بين ستمائة وألف يقودهم عبد الرحمن بن عديس البلوى, وكنانة بن بشر الجيبي, وعروة بن شييم الليثي, وأبو عمرو بن بديل بن ورقاء الخزاعي وغيرهم ويقودهم جميعا الغافقي بن حرب العكي. ولم يجرؤوا أن يخبروا الناس أنهم سوف يخرجون إلى الحرب, وإنما خرجوا كالحجاج, وكانوا يرغبون في خلافة على.
ثوار الكوفة :-
خرجوا أيضا في أربع فرق وعليهم زيد بن صوحا العبدي, والأشتر النخعي, وزياد بن النضر الحارثي, وعبد الله بن الأصم وعددهم كعدد أهل مصر, وعليهم جميعا عمرو بن الأصم, وكانوا يريدون تولية الزبير.
ثوار البصرة :-
خرجوا في أربع فرق, وعليهم حكيم بن جبلة العبدي, وذريح بن عباد العبدي, وبشر بن شريح القيسي وعددهم كعدد أهل مصر وأميرهم جميعا حرقوص بن زهر السعدي وكانوا يريدون طلحة.
اندفع الثوار إلى المدينة , فنزل بعضهم بذي خشب, وبعضهم على الأعوص, أما الأغلبية فنزلوا بذي المروة, وكانت خطتهم أن ترتاد رؤوسهم المدينة ليستطلعوا أخبارها, ثم ذهب نيابة عنهم زياد بن النضر من البصرة و وعبد الله بن الأصم من الكوفة. فلما وصلا المدينة التقيا بأزواج النبي صلي الله عليه وسلم, وبعلي وطلحة والزبير وقالا :إنما نأتم هذا البيت, ونستعفي هذا الوالي من بعض عمالنا, ما جئنا إلا لذلك, وطلبا للسماح للناس بدخول المدينة. وعادا بعد ذلك إلى الثوار فرأى بعضهم رأيا آخر, وخرج نفر من أهل مصر واجتمعوا إلى علي, ونفر من أهل البصرة فأتوا طلحة, وجماعة من الكوفة فاتقوا الزبير, وقال كل فريق أن يبايعوا صاحبنا وإلا كدناهم وفرقنا جماعتهم. ولم يستجب أحد من الرجال الثلاثة (علي وطلحة والزبير) إلى الثوار, بل إن عليًّا قال: "لقد علم الصالحون أن جيش ذي المروة وذي خشب والأعوص ملعونون على لسان محمد صلي الله عليه وسلم".
ولم يستمع الثوار لنصح الناصحين, وهاجموا المدينة, وأحاطوا بعثمان وأعلنوا أن من كف يده فهو آمن . وكتب عثمان إلى الأمصار يستمدهم, فلما أتاهم كتابه خرجوا إليه, فبعث معاوية بن أبي سفيان مسلمة الفهري, وأرسل عبد الله بن سعد بن أبي السرح معاوية بن حديج, وخرج من الكوفة القعقاع بن عمرو.
لقاء الخليفة بالثوار في مسجد الرسول صلي الله عليه وسلم بالمدينة:-
ولما كانت الجمعة, رأى الثوار أن يظلوا بالمدينة, وآثر المصريون نزول المسجد النبوي, وخرج عثمان رضي الله عنه فصلى بالناس, ثم قام على المنبر وخطبهم قائلا: يا هؤلاء العدى, الله الله! فوالله إن أهل المدينة ليعلموا أنكم ملعونون على لسان محمد() فامحوا الخطايا بالثواب, فإن الله عز وجل لا يمحو السىء إلا بالحسن.
وثار القوم بأجمعهم فدفعوا الناس حتى أخرجوهم من المسجد, وتدافعوا على عثمان حتى وقع على المنبر مغشيا عليه , فحمل وادخل داره. فخرج رجل من حجاب عثمان ومعه مصحف في يده وهو ينادي: "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله".
ودخل علي بن أبى طالب على عثمان وهو مغشي عليه فقال: مالك يا أمير المؤمنين, فأقبلت بنو أمية بمنطق واحد: يا على أهلكتنا وصنعت هذا الصنيع بأمير المؤمنين, أما والله لئن بلغت ما تريد لتمرن عليك فقام علي مغضبا.
مقتل عثمان رضي الله عنه (35هـ/656م):-
تأخرت النجدة التي طلبها عثمان من الأقاليم, وتأزم الموقف في المدينة, فدخل رؤوس الثوار-عبد الرحمن بن عديس البلوى (مصر) وحكيم بن جبلة (البصرة ) والأشتر النخعى (الكوفة )- المدينة في أول ذي القعدة, فاستقبلهم عثمان رضي الله عنه, فقالوا ادع بالمصحف فدعا به, فقالوا: اقرأ التاسعة يعنى سورة يونس, فقرأ حتى انتهى إلى قوله: "آلله أذن لكم أم على الله تفترون" قالوا له قف, أرأيت ما حميت من الحمى, أذن الله لك أم افتريت, فقال: حمى عمر, وقد زادت الإبل فزدت. فأخذوا على عثمان رضي الله عنه ميثاقا, وكتبوا عليه خمسا: أن المنفى يعود, والمحروم يعطى, ويوفر الفيء, ويعدل في القسم, ويستعمل ذو الأمانة والقوة, وأخذ عليهم ميثاقهم ألا يشقوا عصا ولا يفرقوا جماعة, ثم رجعوا راضين.
وبينما هم كذلك إذ مر بهم راكب يتعرض لهم ثم يفارقهم, فاستوقفوه, وسألوه عمن يكون, فقال: أنا رسول أمير المؤمنين إلى عامله بمصر, ففتشوه فوجدوا معه كتابا من عثمان ومختوما بخاتمه إلى عبد الله بن سعد, يأمره فيه بصلبهم ويقطع أيديهم وأرجلهم. فعادوا إلى المدينة, والتقوا على علي بن أبى طالب, واخبروه بذلك, وطلبوا منه أن يذهب بهم إلى عثمان, فرفض وترك المدينة. فانطلق الثوار إلى عثمان وسألوه: أكتبت فينا إلى عبد الله بن سعد ؟ فقال: إما أن تقيموا اثنين من المسلمين أو يميني. فلم يقبلوا منه ذلك, ونقضوا عهده وحاصروه.
الحصار وحرق الدار:-
حاصر العُصاة - وكانوا خمسمائة رجل- دار عثمان49 يوما, وقيل20 يوما, وقيل40 ليلة, فلما قضيت18 يوما أتت الأخبار بخروج المدد من الأمصار, فأطبق الثوار حصارهم على دار عثمان, ومنعوا كل شيء عنها, وحالوا بين الخليفة وبين الناس, وكان قد عكف على قراءة القرآن والعبادة.
أشعل الثوار النار حول الدار, فثار أهلها وعثمان يصلي, وقد افتتح صورة "طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى", ولم يكترث بما سمع وانتهى من الصلاة قبل أن يصلوا إليه, ثم عاد فجلس يقرأ: "الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم, فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل".(آل عمران 173).
وهاجم الثوار عثمان وطلبوا أن يخلع نفسه عن خلافة المسلمين فأبى, فدخل عليه قتيرة وسودان بن حمران والغافقي بن حرب العكي, فضربه الغافقي بحديد معه, وضرب المصحف برجله فاستدار المصحف, فاستقر بين يديه وسالت عليه الدماء, وانقض سودان ليضربه, فدفعت نائلة بنفسها لتقي عثمان ضربته, فتعمدها بالسيف فقطع أصابع يدها. ثم هو للسودان على عثمان فضربه, ثم تبعه بعض الثوار فضربوا عنقه.
وهناك عدد من الروايات اختلفت فيما بينها حول قاتل الخليفة عثمان رضي الله عنه وخلاصة القول انه قتل ظلما بيد باغية لم ترد بالإسلام والمسلمين إلا الشر, ولم يجن الإسلام والمسلمون من بعد ذلك إلا الانقسام والفرقة التي انتهت بهم إلى حروب أنهكت قوى الأمة الإسلامية.
ظل الخليفة المقتول مسجى في بيته دون دفن لا يجرؤ أهله على الخروج به لدفنه. ويروى الطبري أنه استمر ثلاثة أيام لا يدفن, فجاء ثلاثة من القوم هم حكيم ابن حزام القرشي واحد بن عبد العزى وجبير بن مطعم, وطلبوا من على رضي الله عنه أن يأذن لأهله في دفنه, فأذن لهم. فلما سمع الثوار بذلك قعدوا لهم في الطريق بالحجارة, وخرج بهم مجموعة من أهله, ليدفنوه عند حائط بالمدينة كانت اليهود تدفن فيه موتاهم, فلما خرجوا به على الناس رجموا سريره, وهموا بطرحه, فبلغ ذلك عليًّا, فأرسل إليهم وأمرهم أن يكفوا عنه ففعلوا.
ويروى أن عددا من الأنصار قالوا: لا يدفن في مقابر المسلمين أبدا, ومن ثم دفن في خش الكوكب الخاص باليهود, فلما ملك الأمويون الخلافة أدخلوا ذلك الخش في البقيع واتخذوه مقابر لهم.
خلافة على بن أبى طالب
(35- 40هـ / 656- 660م )
ولد علي بن أبي طالب بن عبد مناف بن هاشم بمكة المكرمة قبل البعثة بعشر سنين, وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف. وقد أسلمت وهاجرت مع النبي() وكانت من السابقات.
عاش علي رضي الله عنه في كنف الرسول() وبات في فراشه, ولما دخلت قريش للقضاء على النبي(), وجدت عليًّا مكانه, فطار صوابها, وجدَّت في البحث عنه صلي الله عليه وسلم. وقد هاجر علىٌّ بعد أن رد الودائع التي كانت عند الرسول لأهلها, وفي السنة الثانية للهجرة زوجه رسول الله صلي الله عليه وسلم ابنته فاطمة, فأنجب منها الحسن والحسين, واشترك في جميع الغزوات عدا غزوة تبوك لأن الرسول خلَّفه على المدينة. وآثر عن رسول الله() قوله: "أنا مدينة العلم وعلى بابها" واشتهر علي رضي الله عنه بالفروسية وعرف بالشجاعة والإقدام. ولما توفي رسول الله(), اشتغل علي بتجهيزه ودفنه, وكان معه عمه العباس وابنيه الفضل وقثم بن العباس, وأسامة بن زيد.
ولما بايع المسلمون أبا بكر الصديق بالخلافة كان علي فيمن بايع, وكان أبو بكر يستشيره في مهام الأمور, وكان عمر بن الخطاب يقول أقضانا علي, وقد جعله في أهل الشورى الذين رشحهم للخلافة, وقد عرض عليه عبد الرحمن بن عوف الخلافة, وشرط عليه شروطا امتنع عن بعضها فعدل عنه إلي عثمان فقبلها فولاه, فبايعه علي ولازمه, لكن محاباة عثمان ذوى قرباه, غيرت رأى علي فيه, فظن بعض الناس أن العلاقة قد توترت بينهما.
بيعة علي بن أبي طالب:-
سيطر رجال الفتنة الذين قتلوا عثمان بن عفان رضي الله عنه على المدينة المنورة, وازدادت الأمور تعقيدا, بعد أن أثاروا فيها الفوضى والرعب, وقام الغافقي رأس الثائرين من مصر مؤمرا نفسه عليها, والأمة لا تدرى إلى أي مصير تسوقها الأحداث الدامية والفرقة المدمرة التي أدت إلى مقتل خليفة المسلمين.
وبعد أن كشف الله بعضا من هذه الغمة عن المسلمين بعد دفن الخليفة, أدركوا خطورة ترك المدينة تحت إمرة أحد الثوار ومن ثم رأوا ضرورة الإسراع باختيار إمام للمسلمين.
فكان عليهم اختيار أمامهم من رجال مجلس الشورى العمري ( علي بن أبي طالب – سعد بن أبى وقاص – طلحة بن عبد الله – الزبير بن العوام ). أما سعد فقد اعتزلهم وتجنب الفتنة. فكان عليهم أن يختاروا واحدا من الثلاثة الباقين, وهو أمر في غاية الصعوبة, فقد كان كل فريق من الثوار يريد أن يختار, فأهل مصر يريدون علي بن أبى طالب, وأهل الكوفة يفضلون الزبير, وأهل البصرة يرشحون طلحة بن عبد الله. إلا أن كفة علي كانت الأرجح, وربما كان استخلافه يرضى جميع الأطراف. ثم بدأت المحاولات للحصول على بيعة المسلمين لعلي بن أبي طالب إنقاذ للموقف, وحرصا على تماسك الأمة التي ظلت بلا إمام ما بين خمسة وثمانية أيام.
فيقول الطبري: "بقيت المدينة بعد قتل عثمان رضي الله عنه خمسة أيام, وأميرها الغافقى بن حرب يلتمسون من يجيبهم إلى القيام بالأمر فلا يجدون مجيبا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم , فبقوا حيارى لا يدرون ما يصنعون والأمر أمرهم, فلما أعياهم الأمر أتوا عليا وأتى الناس إليه وهو في سوق المدينة وقالوا له أبسط يدك نبايعك, قال لا تعجلوا, فإن عمرا كان رجلا مباركا قد أوصى بها شورى, فأمهلوا يجتمع الناس ويتشاورون, فارتد الناس عن علي ثم قال بعضهم إن رجع الناس إلى أمصارهم بقتل عثمان ولم يقم بعده قائم بهذا الأمر لم نأمن اختلاف الناس وفساد الأمة فعادوا إلى علي فأخذ الأشتر بيده فقبضها علي ولكن الأشتر أصر على مبايعته , فقبل ذلك, فبايعه العامة على أثر ذلك"
من هنا يظهر أن أهل المدينة لم يكن لهم خيار فيما يرى هؤلاء الثائرين, وقد رفض كبار الصحابة طلب رجال الفتنة, وقال لهم علي رضي الله عنه حين عرضوا عليه الأمر, إن هذا الأمر من اختصاص أهل المدينة ولكن هؤلاء عادوا إليه بعد خمسة أيام وألحوا عليه, وهددوا أهل المدينة فلم يجد بدا من قبولها . ٍ
كانت بيعة علي رضي الله عنه يوم الجمعة 25 ذي الحجة سنة 35 هـ, ويلاحظ أن بيعة علي لم تكن علي الصورة التي تم بها انتخاب من سبقه من الخلفاء إذ كانت بيعة أبى بكر الصديق رضي الله عنه عن رضا من الصحابة المجتمعين بالمدينة أما بيعة عمر فكانت بترشيح أبى بكر بموافقة الناس على ذلك. ولما توفى عمر انتخب عثمان بمقتضى قانون الشورى الذي سنه عمر بن الخطاب. أما بيعة علي فلم تكن عن إجماع نظرا لتفرق الصحابة في الأمصار, وفرص الثوار سياسة الأمر الواقع على أهل المدينة , وقيام معاوية بن أبى سفيان وأهل الشام في وجه علي, ومطالبتهم بالثأر من قتلة عثمان قبل البيعة.
موقف طلحة والزبير من بيعة علي بن أبى طالب رضي الله عنه:-
اختلفت الآراء حول بيعة طلحة والزبير بن العوام لعلي بن أبى طالب, فقيل إن طلحة تلكأ في البيعة, فقام على رأسه الشتر النخعى وسل سيفه وقال: والله لتبايعن وإلا أضربن ما بين عينيك, فقال طلحة: وأين المهرب فبايعه, وبايع الناس, وأما الزبير فروى عنه انه التقى بعلي في بستان من بساتين المدينة فبايعه.
وذكر الطبري إن عليا قال لكل من الزبير وطلحة: إن أحببتما أن تبايعا لي وإن أحببتما بايعتكما, قالا: بل نبايعك, وروى عنهما أنهما قالا: إنما صنعنا ذلك خشية على أنفسنا, وقد عرفنا أنه لم يكن ليبايعنا. وقيا أن طلحة والزبير بايعا عليا كرها, وقيل بل إن الزبير لم يبايع. وقيل إن عليًّا جاء فقال لطلحة: ابسط يدك لأبايعك: فقال طلحة أنت أحق فبايعه.
وذكر الطبري أنه لما قتل عثمان واجتمع الناس على علي ذهب الأشتر فجاء بطلحة فقال له دعني انظر ما يصنع الناس, فلم يدعه, وجاء به عنوة, فصعد المنبر فبايع. كما جاء حكيم بن جبلة بالزبير حتى بايع, فكان الزبير يقول: جاءني لص من لصوص عبد القيس, فبايعت واللج على عنقي.
ويبدو أنهما لم يستطيعا الإقامة في المدينة طويلا, فخرجا منها إلى مكة بعد أربعة شهور من مقتل عثمان رضي الله عنه. وقيل إن هناك بعض الناس امتنع عن بيعة علي, فهرب قوم من المدينة إلى الشام, ولم يبايعوا عليًّا, ولم يبايعه قدامة ابن مظعون, وعبد الله بن سلام والمغيرة بن شعبة. وان هناك سبعة نفر تربصوا بالمدينة لم يبايعوا عليا هم سعد بن أبى وقاص, وابن عمر, وصهيب, وزيد بن ثابت, ومحمد بن مسلمة, وسلمة بن وقش وأسامة بن زيد.
وعلى أية حال بويع علي بالخلافة, وبايعه رجال من الثوار, الأشتر النخعى وطلحة والزبير, وربما كان هذا تمثيلا لأهل مصر وأهل الكوفة وأهل البصرة, كما بايعه رجال من المهاجرين والأنصار.
علي بن أبى طالب وعمال الأقاليم:-
رأى علي بن أبى طالب أن يعزل ولاة عثمان جميعا وأن يولى من يرى على الأقاليم, ففي عام 36هـ فرق عماله على الأمصار, فبعث عثمان بن حنيف إلى البصرة, وعمارة بن شهاب إلى الكوفة, وعبد الله بن عباس إلى اليمن, وقيس ابن ساعدة بن عبادة إلى مصر, وسهل بن حنيف إلى الشام.
1- البصرة:- دخل عثمان بن حنيف البصرة, فانقسم الناس بها فرقا, فرقة دخلت في الجماعة, وفرقة تمردت على الخليفة, وفرقة وقفت تنظر ما يصنع أهل المدينة فيسيروا على طريقهم.
2- الكوفة:- لم يستطع عمارة بن شهاب الوصول إلى الكوفة, حيث التقى به القعقاع بن عمرو واخبره أن القوم لا يريدون غير أميرهم, وهدده بضرب عنقه إن رفض العودة, فعاد عمارة بن شهاب مؤثرا السلامة.
3- الشام :- خرج سهل بن حنيف إلى تبوك حيث لقيه رسل معاوية فقالوا له: لو إن عثمان قد بعثك فأهلا بك ومرحبا بالشام أميرا عليها, وإن كان بعثك غيره فعد من حيث أتيت و فعاد إلى المدينة.
4- مصر :- دخل قيس بن سعد مصر متنكرا, والتف حوله بعض أهلها, بينما أعلن البعض أنهم معه إن قتل قتلة عثمان, فكتب بذلك إلى علي.
وأمام هذه الأحداث دعا علي كل من طلحة والزبير, وقال لهما: إن الذي كنت أحذركم قد وقع يا قوم, وإن الأمر الذي وقع لا يدرك إلا بإماتة, وإنها فتنة كالنار, كلما سعرت ازدادت واستنارت, فقالا له: فأذن لنا نخرج من المدينة, فإما أن نكابر وإما أن تدعنا, فقالا: سأمسك الأمر, استمسك, فإذا لم أجد بدا فآخر الدواء الكي. ثم كتب إلى أبى موسى الأشعري, فرد عليه بطاعة أهل الكوفة وولائهم, ثم كتب إلى معاوية فلم يرد عليه.
خروج طلحة والزبير والمطالبة بدم عثمان :-
استأذن طلحة والزبير عليا في الخروج من المدينة للعمرة فأذن لهما, فانضما إلى أم المؤمنين عائشة في مكة, وأتى علي الخبر أن طلحة والزبير وعائشة قد تمالأوا ودعوا الناس إلى الإصلاح.
وكانت السيدة عائشة رضي الله عنها بعد أن قضت عمرتها, خرجت قاصدة المدينة, فلقيها رجل من أخوالها فأخبرها بمقتل عثمان, وإجماع أهل المدينة على علي, فرجعت إلى مكة, وهى لا تقول شيء, حتى استقرت بالحجر الأسود, وجمعت الناس, وأخبرتهم بما سمعت وطالبتهم بالثأر لعثمان فقال عبد الله بن عامر الحضرمي, هاأنذا أول طالب وكان أول مجيب ومنتدب. وكان هو أمير مكة, ثم قام معه سائر بني أمية و ثم قدم عليهم طلحة والزبير من المدينة.
الخروج إلى البصرة:-
عرضت جموع المطالبين بدم عثمان الأمر على أم المؤمنين عائشة وأقنعوها بضرورة الخروج من أرض الحجاز إلى حيث إخوانهم المطالبين بالثأر, واستقام رأيهم على البصرة, وقالوا لأم المؤمنين: دعي المدينة فإن من معنا لا يقرنون لتلك الغوغاء التي بها. واشخصي معنا إلى البصرة فإنا نأتي بلدا مضيعا, وسيحتجون علينا فيه ببيعة علي بن أبى طالب, فتنهضيهم كما أنهضت مكة, ثم تقعدين, فإن أصلح الله الأمر, كان الذي تريدين وإلا احتسبنا ودفعنا عن هذا الأمر بجهدنا حتى يقضى الله ما أراد. فخرجوا في سبعمائة رجل من أهل المدينة ومكة, ولحقهم الناس حتى صاروا ثلاثة آلاف من الرجال.
ووصلت أخبار الثوار إلى علي بن أبى طالب رضي اله عنه, فأمر على المدينة سهل بن حنيف الأنصاري, وخرج فسار حتى يمنعهم من الخروج فلم يستطع , ذلك أنهم كانوا قد تجاوزوا الربذة.
يوم النحيب :-
كان الزبير وطلحة قد خرجا من الحجاز, وخرجت في أثرهما أم المؤمنين عائشة فوصلت ذات عرق, وتبعها أمهات المؤمنين, فلم ير يوم كان أكثر باكيا على الإسلام أو باكيا من ذلك, فسمى يوم النحيب, وأمرت أم المؤمنين عبد الرحمن بن عتاب, فكان يصلى بالناس وكان عدلا بينهم.
الثوار يدخلون البصرة:-
وصل الثوار إلى البصرة, فخرج كل من عمران بن حصين وأبو الأسود الدؤلي وطلبا لقاء أم المؤمنين عائشة, فأذنت لهما, فسألاها عن سبب قدومها, فقالت: والله ما مثلى يسير بالأمر المكتوم, ولا يغطى لبنيه الخبر, إن الغوغاء من أهل الأمصار ونزاع القبائل قد غزو حرم رسول الله وأحدثوا فيه الأحداث, وطالبت الناس بشيئين: أولهما: أخذ قتلة عثمان رضي الله عنه, وثانيهما: إقامة كتاب الله عز و جل. وافترق من بعد ذلك الناس فريقين, فريق انضم إلى عائشة ومن معها وقالوا صدقت والله وبرت, وجاءت والله بالمعروف .وفريق ظلوا على ما هم عليه, وقالوا كذبتم والله ما نعرف ما تقولون.
فأقبل حكيم بن جبلة على الخيل, و أنشب القتال بينه وبين القادمين من الحجاز, فاشتد القتال وكثر عدد القتلى. وطلب أصحاب عائشة الصلح فأجابوهم وتواعدوا, وكتبوا بينهم كتابا على أن يبعثوا رسولا إلى المدينة وانتظروا حتى يرجع الرسول, وعندما وصل هذا الرسول إلى المدينة سأل أهلها: هل أكره كل من طلحة والزبير على بيعة علي, أم أنهم أتياها طائعين, وانقسم الناس فريقين, فريق قال بأنهما أتياها طائعين, وفريق رفض الإجابة, ثم أتاه أسامة بن زيد فقال اللهم أنهما لم يأتيها إلا وهم كارهان.
ورد علي بن أبى طالب الرسول محملا برسالة جاء فيها: والله ما أكرها إلا كرها على فرقة, ولقد أكرها على جماعة وفضل فإن كانا يريدان الخلع فلا عذر لهما, وإن كانا يريدان غير ذلك نظرنا ونظرا. ومن ثم تغير الموقف في البصرة, واندلع القتال مرة أخرى بين أصحاب عائشة وأصحاب عثمان بن حنيف وأرادوا قتله, ولكنهم تريثوا خشية غضب الأنصار, وتدخلت القبائل المجاورة في النزاع مما زاد في تعقيد الأمور.
ومن البصرة كاتب أصحاب عائشة أهل الشام, كما أرسلوا إلى أهل الكوفة يوضحون لهم أهدافهم, ويطلبون منهم العون والتأييد.
خروج علي بن أبى طالب إلى البصرة 36هـ:-
كان علي قد تجهز للخروج في أعقاب الخارجين إلى العراق, فوصل إلى الربذة, فجاءه خبرهم بأنهم قد فارقوها وأنهم يريدون البصرة, ففكر في التوجه إلى الكوفة ليتخذها مقرا له لإدارة عمليات المفاوضة والحرب منها.
بعد ذلك عسكر أمير المؤمنين بذى قار, وتراسل مع واليه على الكوفة واستمده, وأرسل رسله إليها فأتته الناس في تسعة آلاف. انضافوا إلى من كان معه بذى قار وعددهم سبعة آلاف رجل, ثم أرسل القعقاع بن عمرو إلى البصرة فالتقى بعائشة وطلحة والزبير وسألهم عن سبب قدومهم فقالوا: الإصلاح بين الناس, فلما سأل القعقاع عن وجه الإصلاح قالوا: قتلة عثمان رضي الله عنه, فإن هذا إن ترك كان تركا للقرآن, وإن عمل به كان إحياء للقرآن. فقال لهم لقد قتلتما قتلة عثمان من أهل البصرة, لقد قتلتم ستمائة إلا رجلا, فغضب لهم ستة آلاف. فقالت عائشة: وأنت تقول ماذا؟ قال: أقول الأمر دواؤه التسكين.
ويبدو أن أصحاب عائشة رضي الله عنها أوشكوا أن يميلوا إلى هذا الرأي فقالوا: قد أحسنت المقالة, فارجع فإن قدم علي وهو على مثل رأيك صلح الأمر, فرجع إلى علي وأخبره أمرهم, فرضي بذلك, وأشرف القوم على الصلح. وسار عليٌّ برجاله حتى نزل إلى جانب البصرة. وكان طلحة والزبير قد خندقا عليها, ويروى إنه بينما هم كذلك كل معسكر ينتظر الصلح, خرج صبيان بالمعسكر فتسابوا ثم تراموا, ثم تبعهم عبيد المعسكرين ثم السفهاء, ونشبت الحرب بينهم وألجأتهم إلى الخندق فاقتتلوا عليه حتى أجلوا عن موضع القتال.
وحاول علي تهدئة الوقف فخطب في الناس من أجل ذلك, وافترق أهل البصرة, فرقة مع طلحة والزبير, وفرقة مع علي, وفرقة لا ترى القتال مع أحد الفريقين. ثم خرج علي, وخرج طلحة والزبير, فتوافقوا, وتكلموا فيما اختلفوا فيه فلم يجدوا أمرا أمثل من الصلح, ورجع علي إلى معسكره وطلحة والزبير إلى عسكرهما .
القتال :-
كان الناس قد باتوا على الصلح, إذ رأى علي وطلحة والزبير ذلك أصون للأمة وحقنا لدماء المسلمين, إلا أن الثوار لم يوافقوا على الصلح والتخلي عن المطالبة بدم عثمان, واجتمعوا على إنشاب الحرب سرًّا. وخرجوا ووضعوا السيف في معسكر علي, فثار أهل البصرة , وثار معسكر علي وأهل الكوفة, وثار الناس. وعندما علم أصحاب عائشة بكثرة رجال علي تفرقوا, وخرج الزبير تاركا إياهم فمضى إلى وادي السباع حيث تعقبه عمرو بن جزمور فقتله.
وأخذ علي مصحفا وطاف به على أصحابه, وقال من يأخذ هذا المصحف يدعوهم إلى ما فيه وهو مقتول؟ فقام إليه فتى من أهل الكوفة وقال: أنا. فدفعه إليه, فدعاهم, فقطعوا يده اليمنى, فأخذه بيده اليسرى, فدعاهم فقطعوا يده اليسرى, فأخذه بصدره, والدماء تسيل على قبائه, فقتل, فقال علي الآن حل قتالهم. ثم حملت ميمنة أمير المؤمنين على ميسرة أهل البصرة, فاقتتلوا, ولاذ الناس بعائشة رضي الله عنها, وكان قتالهم من ارتفاع النهار إلى قريب العصر, فانهزموا.
وقد قالت عائشة يوم الجمل..... ما زال جملي معتدلا حتى فقدت أصوات بني ضبة. وقد كان آخر من قاتل ذلك اليوم زفر بن الحارث فزحف إليَّ القعقاع فلم يبق حول الجمل عامري إلا أصيب.
وتعتبر موقعة الجمل بداية لسلسلة من المعارك التي استمرت تمزق الأمة الإسلامية وتصدع بناءها وتفرق بين أبنائها.
معركة صفين :-
استخلف علي على البصرة عبد الله بن عباس وسار إلى الكوفة وتهيأ منها إلى صفين, واستشار أصحابه, فأشاروا عليه بأن يسير الجنود ويقيم. إلا أنه أبى إلا أن يسير, فجهز الناس. وبلغ ذلك معاوية بن أبى سفيان فاستشار عمرو بن العاص فقال له: أما إذ بلغك أنه يسير بنفسه فسر بنفسك, ولا تغب عنه برأيك ومكيدتك.
وخرج عمرو بن العاص يدعو الناس ويحضهم على القتال. وكان علي وأصحابه ورجال البصرة والكوفة قد عسكروا بالنخيلة, وكان عددهم 12 ألفا ,ووصل علي ورجاله على الرقة, وطلب من أهلها أن يقيموا له جسرا يعبر عليه إلى الشام فأقاموا له الجسر. وكان معاوية قد خرج في جنوده من دمشق وعسكر على جانب شريعة الفرات, وأقام عليها أبا الأعور السلمي لحمايتها.
وحاول رجال أمير المؤمنين البحث عن مصدر آخر للماء فلم يجدوا, فأخبروه بعطش الناس, وأنه لا يوجد إلا الشريعة التي استولى عليها رجال معاوية, فقال لهم قاتلوهم عليها, فحاولوا قتالهم والصمود أمامهم إلا أن جنود معاوية ومدده المتلاحق فوت عليهم ذلك.
فأرسل علي إلى معاوية, بشير بن عمرو وسعيد بن قيس وشبت بن ربعي, لكي يدعوه إلى الله والطاعة والجماعة, إلا أن معاوية ورجاله رفضوا ذلك, كما رفضوا أن يتركوا المطالبة بدم عثمان, وقالوا: " قتل إمامكم مظلوما, فنحن نطلب دمه".
وكان ذلك في شهر ذي الحجة سنة ست وثلاثين من الهجرة, وكان علي يخرج للقتال فرقا من جنوده, يقتتلون معهم ثم يعودون, ودام القتال في ذي الحجة كلها حتى إذا دنا منهم شهر المحرم تداعى الناس إلى كف القتال لعل الله يهديهم إلى صلح أو اجتماع للكلمة فكفوا عن القتال.
وظل الناس معسكريين طيلة المحرم, فلما انتهى تعب الناس وكتبوا الكتائب وبات كل في معسكره يستعد للقتال. وأصبح الناس. والتحم الفريقان ومال حبذ الشام على ميمنة علي فكشفوها, وتركز القتال بعد ذلك على الميسرة وكان فيها أمير المؤمنين, وكاد النصر يأتي لعلي وأصحابه على أهل الشام.
فلما رأى ذلك عمرو بن العاص, عرض على معاوية أمرا قال فيه أنه يزيدهم اجتماع ويزيد أصحاب على فرقة ,فقال معاوية , وما هو ؟قال عمرو نرفع المصاحف ثم نقول: ما فيها حكم بيننا وبينكم. فرفعوا المصاحف بالرماح وقالوا: هذا كتاب الله عز و جل بيننا وبينكم, من لثغور أهل الشام بعد أهل الشام , ومن لثغور أهل العراق بعد أهل العراق, فلما رأى الناس المصاحف قد رفعت قالوا: نجيب إلى كتاب الله عز و جل، وننيب إليه.
التحكيم :-
لم يعتقد علي في صحة مطلب معاوية ورجاله وطلب من جنوده أن يصدقوا القتال, وبين لهم أنه أعلم بهؤلاء الرجال منهم, وأنهم ما رفعوا المصاحف إلا مكيدة وخدعة ودهنا, إلا أن بعضهم رد عليه فقال: لا يسعنا إلا أن ندعى إلى كتاب الله عز وجل فنأبا أن نقبله. ونشب خلاف من نوع جديد فبعد أن قبل علي مبدأ القبول بكتاب الله, والتحكيم, اختلف القوم على من يختاروا ليكون حكمهم ونائبهم إلى محكمة التحكيم, وأخيرا قبلوا أبا موسى الأشعري نزولا على رأى الأشتر.
واختار معاوية وعسكره عمرو بن العاص ليكون نائبهم في التحكيم, وكتبوا بينهم صحيفة فيها, أجل التحكيم ومداه, كما حددوا مكان محكمة التحكيم على أن تكون إما دومة الجندل أو أذرح إلا أنها عقدت في دومة الجندل.
نتائج التحكيم:-
لم يكن التحكيم في واقع الأمر إلا زيادة للفتنة والانقسام بين المسلمين فهو لم يحسم الخلاف كما كان متوقعا منه. والحكمان لم يوفقا إلى حكم ترضى به الأمة الإسلامية جميعا. فأتباع علي لم يرضوا بالتحكيم, ولم يقتصر خروجهم على مجرد عدم الرضا أو الرفض لنتائج التحكيم, وإنما كان خروجهم يعنى الحرب.
وكان الحكمان قد قررا خلع الرجلين وجعل الأمر شورى بين المسلمين, واتفقا على إعلان ذلك للناس, ولكن عمرو بن العاص بعد أن خرج إلى الناس قدم أبا موسى الأشعري الذي خلع صاحبه, ثم تكلم عمرو فثبت صاحبه معاوية فإنه ولى عثمان بن عفان, والطالب بدمه, وأحق الناس بمقامه .
وقد ترتب على قرار التحكيم أمورا نجملها في ما يلي:-
أولا: التحكيم كان زيادة للفتنة والانقسام بين المسلمين, فلم يحسم الخلاف كما كان متوقعا, والحكمان لم يوفقا إلى حكم ترضى به الأمة الإسلامية.
ثانيا: ظهور الخوارج أو الحرورية كفرقة خرجت عن الجماعة, وحين سمعوا نتائج التحكيم, قرروا أن يولوا أمرهم رجلا منهم, وعرضوا الأمر على رجالهم فأبوا إلا عبد الله بن وهب فبايعوه, وأصبحوا حزبا معارضا خاض حروبا شتى نالت من وحدة الأمة.
ثالثا: قيام أهل الشام بمبايعة معاوية بن أبى سفيان بالخلافة, وبدأ معاوية يمارس سلطاته, فسير جيوشه لتتبع علي بن أبى طالب حتى وصلت إلى الحجاز واليمن وأخذت البيعة له, كما أرسل عمرو بن العاص إلى مصر.
رابعا: تضعضع مركز أمير المؤمنين علي بن أبى طالب بانقسام أهل العراق على أنفسهم الذي قوى فيه مركز معاوية.
خامسا: ظهور الحزبية القائمة على العصبيات القبلية والتي كانت معروفة في الجاهلية, لكن في ثوب جديد: هاشمية تتمثل في حزب بني هاشم الذي انتصر لعلي باعتباره الخليفة الشرعي, وعثمانية يمثلها هؤلاء المطالبين بدم عثمان المقتول ظلما, وهو نفس الحزب الذي ساند معاوية حين تولى بطولة هذا الدور, وتحول فيما بعد إلى الحزب الأموي.
سادسا: التحكيم أعطى معاوية بن أبى سفيان هدنة أنقذته من هزيمة محققة, فعاد إلى دمشق بجند موحد الكلمة, فأعطته مدة الهدنة (ستة أشهر) فرصة ثمينة نظم فيها قواته, واستعد للقتال من جديد.
سابعا: المؤامرة التي دبرها الخوارج والتي انتهت بقتل علي بن أبى طالب رضي الله عنه في عام 40هـ/660م.
وكان اعتراض الخوارج على التحكيم هو أن الحكمان: أبو موسي الأشعري وعمرو بن العاص, نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما, وأحييا ما أمات القرآن, واتبع كل واحد منهما هواه بغير هدى من الله, فحكما بغير حجة بينة و لا سنة ماضية, واختلفا في حكمهما, وكلاهما لم يرشد, فبريء الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين.
معركة النهروان:-
أخذ أمير المؤمنين يعد العدة ويستنفر الناس للقتال, وأرسل إلى قواده للقدوم إليه بأجنادهم ومقاتلتهم, واجتمعت هذه القوات في النخيلة, وكانوا يعرفون أن مقصدهم بلاد الشام, وبالرغم من ذلك فقد أحس علي بن أبى طالب أن لديهم ميلا إلى البدء بقتال الحرورية الذين خرجوا إلى النهروان, فأبدى لهم رغبته هو الآخر في التعجيل بقتال هؤلاء.
وقد وقع ما جعل علي بن أبى طالب يغير خطته, ويعجل بقتال الخوارج, فهؤلاء ارتكبوا جرائم قتل دون رحمة أو هوادة في حق أبرياء لمجرد أنهم قالوا الحق, وخالفوا آرائهم, كما أشار عليه رجال بضرورة قتال الخوارج قبل أن يستفحل خطرهم, فقالوا: يا أمير المؤمنين, علام تدع هؤلاء وراءنا, يخلفوننا في أموالنا وعيالنا! سر بنا إلى القوم, فإذا فزعنا مما بيننا وبينهم سرنا إلى عدونا من أهل الشام, فنادي الخليفة بالرحيل, وخرج فعبر الجسر فصلى ركعتين بالقنطرة, وعلى شاطئ الفرات لقيه منجم أشار عليه أن يسير وقتا من النهار, قائلا: إن أنت سرت في غيره لقيت أنت وأصحابك ضرا شديدا, فخالفه علي و وسار في الوقت الذي نهاه عنه, فلما فرغ من أهل النهر حمد الله وأثنى عليه, ثم قال لو سرنا في الساعة التي أمر بها المنجم لقال الجهال الذين لا يعلمون شيئا, سار في الساعة التي أمر بها المنجم, فظفر.
وخرج أمير المؤمنين, فعبأ الناس للقتال, ونظم صفوفهم, وعبأت الخوارج, ونظمت صفوفها, ورفع علي بن أبى طالب راية أمان مع أبى أيوب, وأمره أن يناديهم: من جاء هذه الراية منكم ممن لم يقتل ولم يستعرض, فهو آمن, ومن انصرف منكم إلى الكوفة أو إلى المدائن, وخرج من هذه الجماعة فهو آمن إنه لا حاجة لنا بعد أن نصيب قتلة إخواننا منكم في سفك دمائكم : فانصرف عن القتال آلاف منهم , ولم يبق مع عبد الله بن وهب إلا ألفين وثمانمائة منهم, وهؤلاء زحفوا نحو جيش أمير المؤمنين, فقدم إليهم الخيل دون الرجال, وصف الناس وراء الخيل صفين, وصف المرامية وراء الصف الأول, وقال لأصحابه: كفوا عنهم حتى يبدأوكم.
وقد أقبلت الخوارج في صفوف القتال وهم ينادون: الرواح إلى الجنة, وحملوا على الناس, فافترقت خيل علي بن أبى طالب فرقتين: فرقة نحو الميمنة وأخرى نحو الميسرة, واستقبلت الرماة وجوههم بالنبل, عطفت عليهم الخيل, ونهض إليهم الرجال بالرماح والسيوف, فما لبثوا أن أناموهم, وأصاب الخوارج الهلاك, "وكأنما قيل لهم موتوا فماتوا" وحين مر بهم أمير المؤمنين وهم صرعى قال: بؤسا لكم لقد ضركم من غركم, قالوا: يا أمير المؤمنين من غرهم؟ قال: الشيطان والنفس أمارة بالسوء غرتهم الأماني, وزينت لهم المعاصي, ونبأتهم أنهم ظاهرون , أما من كان به رمق منهم, وكانوا أربعمائة رجل , فقد أمر بهم الخليفة فدفعوا إلى عشائرهم قائلا لهم : احملوهم معكم فداووهم, فإذا برئوا فوافوا بهم الكوفة وخذوا ما في عسكرهم من شيء.
ولما فرغ علي بن أبى طالب من أهل النهروان حمد الله وأثنى عليه, ثم أمر الناس بأن يستمروا على استعدادهم لقتال أعدائهم من أهل الشام, فتعللوا بأنهم في حاجة إلى التزود بالمؤن والعتاد والراحة, فأبقاهم في معسكر النخيلة, لكنهم تسللوا منه إلى نسائهم وأبنائهم, فدخل علي رضي الله عنه الكوفة, وانكسر عليه رأيه في المسير.
مقتل علي بن أبى طالب( في السابع عشر من رمضان عام 40هـ ):-
وكان سبب قتله رضي الله عنه أن ثلاثة من الخوارج هم: عبد الرحمن ابن ملجم المرادي, والبراك بن عبد الله التميمي, ومرو بن بكر التميمي, اجتمعوا فتذاكروا أمر الناس, وعابوا عمل ولاتهم, ثم ذكروا أهل النهر (الذين قتلوا في معركة النهروان), فترحموا عليهم, وقالوا ما نصنع بالبقاء بعدهم شيئا! إخواننا الذين كانوا دعاة الناس لعبادة ربهم, والذين كانوا لا يخافون في الله لومة لائم, فلو شرينا أنفسنا فأتينا أئمة الضلالة و فالتمسنا قتلهم, فأرحنا منهم البلاد, وثأرنا بهم إخواننا! فقال عبد الرحمن بن ملجم: أنا أكفيكم علي بن أبى طالب, وقال البراك بن عبد الله: وأنا أكفيكم معاوية بن أبى سفيان, وقال عمرو بن بكر: أنا أكفيكم عمرو بن العاص, فتعاهدوا وتواثقوا بالله لا ينكص رجل منهم عن صاحبه الذي توجه إليه حتى يقتله أو يموت دونه, فأخذوا أسيافهم, فسمموها, وتواعدوا لسبع عشرة خلون من رمضان عام 40هـ أن يثبت كل واحد منهم على صاحبه الذي توجه إليه, وأقبل كل رجل منهم إلى البلد الذي فيه صاحبه المطلوب.
أما عبد الرحمن بن ملجم, فقد كان حريصا على تنفيذ مهمته, وساقت إليه الظروف رجلان لمساعدته في هذه الجريمة, أحدهما يدعى وردان أحضرته امرأة من تيم الرباب أرادت أن تثأر لمن قتل من أهلها يوم النهر, فجعلت قتل علي بن أبى طالب صداقا لها حينما طلب ابن منجم الزواج منها , والثاني شبيب بن بجرة من أشجع أقنعه عبد الرحمن بن ملجم بالمشاركة مهع في قتل أمير المؤمنين بمن قتل من إخوانهم (الخوارج).
فلما كانت ليلة الجمعة التي تواعد فيها الثلاثة على قتل علي ومعاوية وعمرو, خرج عبد الرحمن بن ملجم بسيفه المسموم ومعه شبيب ووردان, وجلسوا مقابل السدة التي يخرج منها علي بن أبى طالب للصلاة, وعندما خرج أمير المؤمنين, نادى: أيها الناس, الصلاة, الصلاة, فضربه شبيب بن بجرة بالسيف, فوقع سيفه بعضادة الباب, وضربه ابن ملجم على قرنه بالسيف, وقال: الحكم لله لا لك يا علي ولا لأصحابك, وهرب وردان.
ولما ضرب عبد الرحمن بن ملجم الخليفة, قال: لا يفوتنكم الرجل, فشد الناس عليه, فأخذوه, وتأخر علي, وقدم جعدة بن هيبرة الصلاة, ثم قال أمير المؤمنين: احضروا الرجل عندي ( يقصد ابن ملجم ), فأدخل عليه, فقال: أي عدو الله, ألم أحسن إليك, قال: بلى, قال: فما حملك على هذا؟ قال: شحذته أربعين صباحا, وسألت الله أن يقتل به شر خلقه, فقال علي: لا أراك إلا مقتولا به, ولا أراك إلا من شر خلق الله, ثم قال علي: النفس بالنفس إن أنا مت, فاقتلوه كما قتلني, وإن بقيت رأيت فيه رأيي, يا بني عبد المطلب لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين, تقولون قد قتل أمير المؤمنين, ألا لا يقتلن إلا قاتلي, انظر يا حسن (ابنه): إن أنا مت من ضربتي هذه, فاضربه ضربة بضربة, ولا تمثلن بالرجل, فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور.
"