تقديم
وادي القرى (مدينة العلا) تاريخ يغلفه الصمت، وآثار تبوح في صخب عن ماض تليد. أثارني ذلك الغموض الذي يحيط بأحداث توالت على أرضها. فقررت أن أغوص في أعماق أمجادها، باحثا عما توارى تحت ترابها.
دفعني الفضول إلى البحث العلمي عن تاريخ هذه المدينة في العصور الإسلامية، فكان من الطبيعي أن أبدأ بعصر النبوة المبارك، وكيف دخل الإسلام إلى ربوعها، وتحولت هذه البلاد ذات الطبيعة الهادئة والآثار الصاخبة من معقل للوثنية واليهودية والمسيحية إلى منارة إسلامية ترسل شعاعها إلى ماجاورها من القرى والبلدات والمدن، متجاوزة حدود أرض الحجاز إلى بلاد الشام وتخوم الروم البيزنطيين .
تلك الحقيقة الغائبة، التي توارت بين صفحات الكتب وعقول الأجداد. سأحاول جاهدا الوصول إليها عن طريق البحث العلمي الأصيل كي أضعها بين أيدي المتعطشين إليها. والحقيقة التاريخية دائما هي الغاية التي تهدف إليها الدراسات الجادة، التي تتبع المنهج العلمي الذي يحتاج إلى الصبر والمثابرة .
ومن خلال هذه الدراسة ، سأحاول الوقوف على أحوال وادي القرى في فترة ما قبل الدعوة الاسلامية، من الناحية الدينية والاجتماعية والاقتصادية، معتمدا على ما جاء في المصادر العربية والمراجع المتخصصة حول هذه الفترة، ثم أعرج على أحوال المنطقة في فترة عصر النبوة وأتناول ماورد حولها بالتفصيل.
وأعتقد أن أحدا من الباحثين لم يتعرض لدراسة هذا الموضوع على النحو المطلوب وإنما جاء ذلك على شكل إشارات أو ومضات عابرة في دراسات تناولت وادي القرى بشكل عام بهدف الثقافة العامة ، أو دراسات جادة في فترة عصر النبوة تماست مع تاريخ وادي القرى في نقطة وجدت بحكم الضرورة التاريخية .
د. مصطفى علي دويدار
العلا 21/9/2010م
أحوال وادي القرى السياسية قبيل الإسلام :
وادي القرى اسم أُطلق على المنطقة المعروفة حاليا بمحافظة العلا. وترجع هذه التسمية إلى كثرة القرى في هذا الوادي، وقد اشتهر هذا الاسم في العصر الجاهلي وبداية العصر الاسلامي، وهو واد يمتاز بخصوبة أرضه ووفرة مياهه، مما أدى إلى كثرة سكانه، وبلوغهم درجة عالية من التحضر وهم خليط من الناس([1]).
وإن أول ما يقفز إلى ذهن الباحث في تاريخ وادي القرى، تلك الحقبة التاريخية التي اشتهرت بها المنطقة وخاصة الحجر ومدائن صالح، حيث سكنتها قبيلة ثمود التي ورد ذكرها في القرآن الكريم؛ والثموديون هم قوم صالح عليه السلام، الذين أهلكهم الله تعالى بالصيحة، ولسنا بصدد الحديث عنهم حسب مقتضيات بحثنا، غيرأننا نشير إلى بعض أخبارهم توسعا، فهناك شبه إجماع على أن منطقة الحجر هي موطن ثمود، وتؤكد المكتشفات الأثرية والنقوش أنهم عاشوا في شمال شبه الجزيرة العربية منذ القدم، وورد اسم ثمود في المصادر اليونانية وحددها بلينوس في المنطقة ما بين دومة الجندل ومدينة الحجر([2]). وقد ورد في القرآن الكريم ما يدل على موطن ثمود في قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِالْمُرْسَلِينَ (80( وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُواعَنْهَا مُعْرِضِينَ ( 81 ) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ ( 82 ) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ ( 83 ) فَمَاأَغْنَى عَنْهُمْ مَاكَانُوا يَكْسِبُونَ (84) ([3]).
ويذكر المسعودي أن منازلهم كانت تقع في الحجر بين الشام والحجاز إلى ساحل البحر الحبشي، وأن ديارهم بفج الناقة، وبيوتهم كانت وماتزال في عصره أبنية منحوتة في الجبال، ورسومهم باقية، وآثارهم بادية في طريق الحجاج لمن ورد من الشام بالقرب من وادي القرى([4]). ويؤكد ابن خلدون أن ديارهم بالحجر ووادي القرى فيما بين الحجاز والشام؛ وقد مر النبي صلى الله عليه وسلم على خرائب ديارهم في غزوة تبوك ونهى عن دخولها([5]). وقد زار بعض الجغرافيين الحجر وعلماء البلدان والسياح وذكروا أن بها بئرا تسمى بئر ثمود([6]).
أما عن الفترة التي عاش فيها الثموديون، فنستطيع أن نتعرف عليها من خلال النقوش الأشورية التي تُؤرخ بالقرن الثامن قبل الميلاد، فهي تشير إلى قبائل (تامودي) أو(ثمودي) منذ أواخر ق8 ق.م. واعتبرتهم من أهل البرية. كما أشارت إلى عدم خضوعهم للحكام ولا للملوك([7]). غير أننا نلاحظ من تذكير صالح عليه السلام لهم أنهم كانوا يعيشون في نعمة، بعد أن مكن الله لهم الأرض، وكانت طبيعة الحجر سهل وجبل، فأقاموا في السهل قصورا، ونحتوا في الجبال بيوتا، فهي حضارة عمرانية واضحة المعالم، ويبدو أنهم كانوا أصحاب الحضارة التالية لعاد، وأن سلطانهم امتد خارج الحجر، وبذلك صاروا ممكنين في الأرض([8]).
ويبدو أنهم لم يؤسسوا دولة مستقرة ، وإنما عاشوا على هيئة مجموعة من العشائر والقبائل، التي سكنت وادي القرى، لاسيما منطقة الحجر. وقد جمع البعض بين الحجر ومدائن صالح، لكثرة الآثار المنحوتة في الجبال هناك، وارتباطها باسم نبي الله صالح عليه السلام. وعلى الرغم من ذلك يرى البعض الآخر أن الحجر هي بلدة الخريبة التي تبعد عن مدائن صالح بعشرة أميال، والتي تحتوي على الكثير من الآثار المدمرة([9]). ويرى الباحثون أن الثموديين كانوا يقطنون بعد الميلاد في مواطنهم المذكورة في أعالي الحجاز في "دومة الجندل" و"الحجر" و"تيماء".([10])
وقد سمح هذا الموقع للثموديين بالاتصال بالعديد من الحضارات المجاورة، ولاسيما دولتي ديدان ولحيان، حيث تعلموا منهم الكتابة، وخاصة الخط المسند الجنوبي، وتطعيم هذا الخط بالخط السينائي المصري، كما استفادوا أيضا من الحضارة الفلسطينية. ولذلك وجد العديد من الأسماء العربية بين الأسماء الثمودية مثل (سعد، ومالك،وزيد، وحارثة، وسعدة، ومسكة، وغيرها)([11]). ومما يدل على اتساع دائرة اتصالهم التجارية مع جيرانهم، الآثار والنقوش التي نجح العلماء في العصر الحديث ، في كشف النقاب عنها في كل من تبوك والطائف ومدائن صالح وتيماء في جبل رم) ([12]).
ومن أقدم القبائل التي سكنت الوادي قبيلة ديدان، التي ورد اسمها في التوراة وفي كتابات الأشوريين وفي العديد من الكتابات العربية القديمة، كما تشير النقوش المكتشفة في العلا إلى أن مجموعة من القبائل العربية من جنوب الجزيرة العربية وشمالها سكنت ديدان (العلا)وكونت ما يطلق عليه "دويلات المدن"([13]). فقد ورد في التوراة اسم طسم (لتوشيم letushim ) وذكرت أنها بطنا من بطون قبيلة ديدان التي قطنت منطقة العلا، مما يعني أن بداية استقرار طسم كان في منطقة العلا. وذلك على الرغم من أن الكتب العربية تحدد موقع استقرارهم بمنطقة اليمامة ولعل من المنطقي أنهم سكنوا العلا أولا، ثم انتقلوا منها إلى منطقة اليمامة([14]).
ويذكر بعض الباحثين أن العلا كانت تعرف قديما باسم (ديدان) (الديدان) معتمدين في ذلك على ما ورد في التوراة([15])؛ التي ورد بها ما يفيد أن ديدان شعب عربي من عرب الشمال، يرجع نسبه إلى (كوش)([16]) أو(يقشان) من إبراهيم من قطورة؛ وأن (الديدان) متاخمة لأرض أدوم وتقع في الجنوب الشرقي منها؛ وأن الديدانيين كانوا من الشعوب التي ترسل حاصلاتها إلى سوق (صور)([17]).
ويرى بعض الباحثين أن اسم مملكة ديدان أو مملكة ددن جاء نتيجة تتبع صيغة وردت في نص واحد هو "متع إل كبير ددن" أي شيخ المدينة أو حاكمها، وقيل بل سميت ددن ارتباطا واشتقاقا من اسم الإله "ود" الذي كان يعبد في المنطقة منذ الألف الأول قبل الميلاد. كما يرون أن تاريخ مملكة ديدان يرجع إلى مابين القرنين السادس والخامس ق.م. وكان نظام الحكم فيها ملكيا وراثيا.([18]).
وتقع خرائب "ديدان" هذا اليوم في "وادي العلا"، وتوجد على حافتيه كتابات، كما توجد فيه وفي "وادي المعتدل" والأودية الأخرى آثار حضارات ماضية متعددة، مثل حضارة المعينيين واللحيانيين والديدانيين وغرهم. وتعد "الخريبة" مركز الديدانيين، و قد انتزع الأهلون أحجار الآثار، فاستعملوها في مبانيهم فقضوا على كثير من الكتابات، وتشاهد جدر بعض البيوت وقد بنيت بتلك الأحجار الأمر الذي جعلنا لا نعرف من أمر مملكة "ديدان" شيئاً يذكر. ويعود سبب جهلنا بتاريخ هذه المملكة إلى قلة ما وصل إلينا من كتابات عنها. وقد ذهب "كاسكل" إلى إن ظهور ملكة "ديدان" وابتداء حكمها كان في حوالي السنة "160" قبل الميلاد، غير إنه يرى إن هذه المملكة لم تتمكن من العيش طويلاً، إذ سرعان ما سقطت في أيدي اللحيانين، وكان ذلك - على رأي " - في حوالي السنة "115 ق. م ." وقد وصلت إلينا أسماء ملوك حكموا مملكة "لحيان"، و هي مملكة صغيرة تقع أرضها جنوب أرض حكومة النبط، ومن أشهر مدنها: "ددان"، و هي خرائب "العلا" "الخريبة" في الزمن الحاضر، و "الحجر"، وقد عرفت ب "Hegra" و "Egra" عند اليونان واللاتين. ومن الكتابات اللحيانية والآثار التي عليها في مواطنهم، استطعنا استخراج معارفنا عن مملكة لحيان([19]).
ويرى "كاسكل" إن اللحيانيين كانوا يقيمون على الساحل على مقربة من "ددن" "الديدان"، وكانت لهم صلات وثيقة بمصر، وتأثروا بالثقافة اليونانية التي كانت شائعة في مصر إذ ذاك، حتى إنهم سمّوا ملوكهم بأسماء يونانية، مثل "تخمي" Tachmi، و "بتحمي" Ptahmy، و "تلمي" Tulmi , و قد أخذت من "بطلميوس" Ptolemaios.، أما الكتابات اللحيانية أو الكتابات الأخرى مثل النبطية أو الثمودية أو المعينية وغيرها، فإنها لم تتحدث بأي حديث عن أصل اللحيانيين. كما يرى "كاسل" إن المعينين كانوا قد بقوا يحكمون "ديدان" مكونين حكومة "مدينة" إلى حوالي السنة "150 ق.م."، وعندئذ أغار عليهم اللحيانيون وانتزعوا الحكم منهم، ويرى إنه من المحتمل إن الملك الأول الذي حكم اللحيانيين كان من أهل الشمال، وربما كان من النبط غير إن الذين جاءوا بعده كانوا من اللحيانيين([20]).
وكان المعينيون قد سيطروا على الطريق التجاري بين الجنوب والشمال بما في ذلك منطقة شمال الحجاز، ومن ثم معان وديدان (العلا الحالية) ضمن دولتهم، وهذا ما أسفرت عنه أعمال الحفائر في معان والعلا . وهذا يعني أن هذه المناطق الشمالية كانت تابعة لدولة معين الجنوبية([21]). ويذكر أن المعينيين سيطروا على أعالي الحجاز في القرن الخامس قبل الميلاد، مكونين مستوطنات معينية غايتها حماية الطرق التجارية التي تمر من بلاد الشام إلى الموانيء العربية الجنوبية. وقد عرفت تلك المستعمرة باًسم "معين مصران"، وعاصمتها مدينة "علت"، وهي "العلا" في الزمن الحاضر. ومن مدنها الأخرى "ديدان"، و "الحجر" وغيرهما([22]). وكان ملوك معين يقومون بتعيين ولاة من قبلهم لإدارة هذه المنطقة يطلقون على الواحد منهم لقب "كبر" أي "كبير" ، ويعهدون إليه بإدارة شئون المنطقة والمحافظة على الأمن فيها ، ثم جمع الضرائب وإرسالها إلى "قرناو"([23]).
وقد اختلف الباحثون فيمن سكن هذه المناطق أولاً ومن حكم قبلاً: الديدانيون، أم المعينيون أم اللحيانيون? فذهب بعضهم إلى إن اللحيانيين إنما جاءوا بعد المعينيين، وهم الذين قضوا عليهم وانتزعوا منهم الحكم وأقاموا مملكة لحيانية، وذهب بعض آخر إلى إن اللحيانيين كانوا قد سبقوا المعين بين في الحكم، وان حكمهم هذا دام حتى جاء المعينيون فانتزعوه منهم في زمن اختلفوا في تعيينه، وذهب آخرون إلى تقديم الديدانيين على المعينين و اللحيانيين وقد اختلفوا كذلك في زمان نهاية حكم كل حكومة من هذه الحكومات.
ويرى بعض الباحثين إن مملكة لحيان ظهرت في أيام "بطلميوس الثاني"، بتشجيع من البطالمة وبتأييدهم ليتمكنوا من الضغط على النبط حتى يكونوا طوع أيديهم. وقد جعل بعضهم ذلك الاستقلال فيما بين سنة "280 ق. م." وسنة "200 ق. م.". و يرى غيرهم إن ذلك كان قبل هذا العهد([24]) .غير أن هناك من يرى إن النبط هم الذين قضوا على مملكة لحيان، باستيلائهم على "الحجر" سنة "65 ق. م." وعلى ديدان سنة "9 ق. م."، وذهب "كاسكل" إلى إن النبط قضوا على مملكة "لحيان"، و ذلك بعد السنة "24 ق. م."، إلا إن حكم النبط لم يدم طويلاً، لأن الرومان كانوا قد استولوا على مملكة النبط سنة "106 م"، وكوّنوا منها ومن مناطق عربية أخرى مجاورة اسم "المقاطعة العربية" "الكورة العربية" وبذلك انتهى حكم النبط على لحيان([25]).
وأيًا ما كان الأمر فإنا هذه المنطقة قد شهدت عدد من الحكومات المتتالية، وتنازعتها أكثر من قبيلة عربية وخضعت طوعا وعنوة لممالك عديدة سواء أكانت ديدانية أم لحيانية أم معينية. ولعل السبب الرئيسي في ذلك هو ماتمتعت به المنطقة من مكانة رائعة بوقوعها على طرق التجارة بين الشمال والجنوب آنذاك. وليس أدل على ذلك ما ذهب إليه الباحثون من أن معين تحكمت في مقاليد التجارة بين الهند ومنطقة حوض البحر المتوسط ، وذلك لفترة طويلة ، ومن ثم انصرف اهتمام حكامها نحو إنشاء محطات القوافل التجارية ، وتأمين الطرق بشتى السبل، وكان من أهم المحطات التجارية معان في شمال خليج العقبة، والبتراء عاصمة النبط([26]).
ومن المعروف أن الطريق التجاري البري الموصل بين اليمن والشام ومصر كان يمر غربي تيماء، وكان هذا الطريق يخضع أحيانا لسيطرة المعينين، وأحيانا أخرى لسيطرة السبئيين الذين كانوا يعاصرونهم؛ وفي جميع الواحات التي يمر عليها هذا الطريق في الشمال الغربي من بلاد العرب مثل واحة مدين وواحة ديدان المذكورة في الكتاب المقدس باسم ددن أو ديدان كما تقدم، والتي أجمع الباحثون على أنها واحة العلا، ومثل واحة معون أي معان الحديثة، كانت تقيم طائفة من حكام معين أو سبأ تؤيدها حاميات عسكرية وجاليات جنوبية من الأوساط التجارية، كما كانت تقيم معها طائفة من الإفريقيين الكوشيين باعتبار أنهم كانوا يمارسون التجارة مع المعينيين أوالسبئيين بحكم الجوار([27]).
ومن الثابت تاريخيا أن السبئيين استغلوا ضعف المعينيين ، فأخذوا يوسعون مناطق نفوذهم على حساب دولة معين ، فلما قوي أمر السبئيين قضوا على الدولة المعينية ، وأقاموا دولتهم على أنقاضها، وورثوا لغتها وديانتها وتقاليد شعبها ، وخلفوها في الاشتغال بالتجارة بين الهند والحبشة ومصر والشام والعراق ، حتى أصبحوا في القرون الأولى قبل الميلاد أعظم وسطاء التجارة بين الحبشة والهند وبين الشام ومصر . وقد أطلق عليهم فليب حتي اسم " فينيقيي البحر الجنوبي " ، وكانت حكومة سبأ تبعث حكاما يقيمون في الواحات الشمالية التي تقع على الطريق التجاري ، إلى جانب حاميات عسكرية ، لتضمن بقاء هذه المحطات التجارية في دائرة النفوذ السبئي . وكانت واحة ديدن (العلا) المركز الرئيسي الذي تمارس فيه سبأ نفوذها على شمال بلاد العرب([28]).
ويتضح من هذا السرد التاريخي بما لايدع مجالا للشك أن السبئيين هم الين أنهوا الوجود المعيني في شمال الجزيرة العربية، الأمر الذي يؤكد أن الليحيانيين كانوا قبل المعينيين ، حيث أنه من الصعب أن تسيطر قوتان على منطقة واحدة وتفرضا سيطرتهما على طرق التجارة في وقت واحد، وبذلك بات من المستحيل أن يكون اللحيانيين هم الذين قضوا على الوجود المعيني؛ غير أن ذلك لايعني بالضرورة أن المعينيين هم الذين قضوا على اللحيانيين، أوالديدانيين فلم يثبت من الناحية الزمنية أيهما حكم أولا. على الرغم من أن هناك من يرى المعينيين كانوا يسيطرون قبل اللحيانيين معتمدين على شاهد قبر عثر عليه في العلا ، وهو مؤرخ بحكم الملك النبطي الحارث الرابع في السنة التاسعة ق.م. أي أن اللحيانيين أنفسهم كانوا يومئذ تحت الحكم النبطي([29]).
ومن المرجح أن يكون اللحيانيين قد حكموا هذه المنطقة في دورين، فعادوا مرة أخرى إلى وادي القرى عقب قضاء النبطيين على نفوذ سبأ في المنطقة، مما أعطى الفرصة لجيل جديد من اللحيانيين للعودة واسترداد ملكهم. أو أنهم ظلوا مقيمين أثناء السيطرة المعينية ثم السبئية يتحينون الفرصة للسيطرة من جديد وهذا ما أكد عليه الباحثون وأيدته أبحاثهم حيث يقول الأستاذ جواد علي: "و يتبن من النصوص اللحيانية المتأخرة إن هذا الدور الثاني، أي الدور المتأخر من حكم حكومة لحيان، لم يكن حكماً مستقراً وطيد الأركان، لذلك تفشت السرقات، وكثرت حوادث القتل فيه."([30]).
غير أن هناك من يعتبر اللحيانيين هم أنفسهم الديدانيين ، حبث يرى أن الفترة التي نشأت فيها ديدان شهدت بروز العديد من ممالك المدن في اطار الممالك الأرامية المنتشرة في بلاد الشام. وعلى ذلك اعتبر أن مملكة ديدان مرحلة أولى من مراحل مملكة ديدان إذ نسبت نفسها في البداية للمدينة "ددن" أو "ديدان" ثم تحول الاسم إلى مملكة لحيان نسبة إلى القبيلة . وبعد ذلك قسم تاريخ مملكة لحيان إلى ثلاث مراحل :
المرحلة الأولى(المرحلة الديدانية): من القرن السابع حتى نهاية القرن السادس ق.م.
المرحلة الثانية ( المرحلة اللحيانية الأولى): وهي مرحلة الخروج من مملكة المدينة "مملكة ديدان" إلى مجال أوسع وشهدت هذه المرحلة أوج ازدهار حضارتها.
المرحلة الثالثة (المرحلة اللحيانية الثانية): من بداية القرن الثالث قبل الميلاد وفيها أصبح لمملكة لحيان نشاط تجاري واسع([31]).
ولاشك أنه رأي جدير بالاحترام غير أنه يفتقر إلى السند التاريخي الذي يمكن أن يدعمه ، والمعروف كما تقدم أن المنطقة أخذت اسم ديدان من القبيلة التي سكنتها وليس العكس، كما ورد في النصوص التوراتية والنقوش الآشورية؛ كما أن المرحلة الثانية تتعارض مع وجود المعينيين والسبئيين الذين تزامنوا معها. والمرحلة الثالثة تتعارض مع ماجاء في النقوش الأثرية التي عثر عليها في العلا والتي تفيد كما تقدم أنهم كانوا معاصرين للأنباط مع نهاية القرن الأول ق.م.
وهناك إشارة إلى وجود إمارة أو مشيخة سكنت المنطقة ما بين حاشد وحملان وفي الحجر، كان سادتها يحملون لقب "ملك" وتمتعوا بشئ من الاستقلال لاندري مداه. ولا الفترة التي حدث فيها هذا الاستقلال، ولعل أمرائها "يهعان ذبيان" و "سمه أفق" اللذين جاء ذكرهما في نقش (جلازر302) ([32]).
وقد شهدت منطقة وادي القرى سيطرة دولة الأنباط الذين سكنوا على حدود الصحراء من ساحل البحر الأحمر إلى حدود سوريا وفلسطين والعراق ، وعلى الرغم من أنها اتخذت مدينة البتراء في شرق الأردن عاصمة لها ، إلا أنها كانت طرفا من تاريخ شبه الجزيرة العربية ، وذلك لغلبة المسميات العربية بين سكانها ، ونتيجة لكثرة الآثار التي تركوها في منطقة مدائن صالح ومغاير شعيب إلى جانب تعاملات النبط التجارية وامتداد نفوذهم السياسي والحضاري في المنطقة الشمالية من الحجاز([33]).
ويؤكد الباحثون أن مملكة الأنباط قد وصلت أوج مجدها على أيام " الحارث الرابع" (9ق.م – 400م)، وأنها كانت تشمل منطقة واسعة تضم دمشق وسهل البقاع ، والأقسام الجنوبية الشرقية من فلسطين ، وحوران وأدوم ، ومدن العلا وسواحل البحر الأحمر([34]). وقد سبق ان ذكرنا أنه عُثر في عهده على شاهد قبر في منطقة العلا يعود إلى السنة التاسعة ق.م. ويؤكد هذا النقش وغيره من النقوش المؤرخة التي تعود إلى فترة حكم هذا الملك أنه كان يولي اهتماما ملحوظا بمنطقة مدائن صالح([35]).
ويرى الباحثون الأثريون أن مدائن صالح من أهم المواقع النبطية، وأن مدافنها تشبه مدافن العاصمة النبطية البتراء، بل إنها تتميز عنها بوجود النقوش المكتوبة بالخط الآرامي النبطي المؤرخة الموجودة على واجهتها المنحوتة، الأمر الذي جعل من هذه المدافن مرجعا رئيسيا، لدراسة تاريخ واجهات المدافن المنحوتة في البتراء، كما أن الدراسات الحديثة قد كشفت عن مدافن نبطية، وعادات دفن نبطية، في مواقع مختلفة من دولة الأنباط([36]). وتشير النقوش التي تم العثور عليها إلى أنها كانت مركز دفاع للأنباط حتى نهاية القرن الثاني الميلادي([37]).
الحياة الدينية في وادي القرى قبل الإسلام
شهدت منطقة وادي القرى منذ عصورها القديمة تضاربا في المعتقدات الدينة، وسادها العديد من الآلهة الوثنية، وكان الثموديون قبائل وثنية وهم من أقدم القبائل التي سكنت المنطقة. وقد أرسل الله عزو جل إليهم أخاهم صالح، فقد كانت دعوته تالية لدعوة هود عليه السلام، وكان قومه كقوم هود يدينون بالوثنية، وقد نشأ صالح عليه السلام في قبيلة ثمود، وهي القبيلة التي سميت باسم الجد الأكبر لهم وهو الجد الخامس لصالح عليه السلام([38]).
ولاشك أن الله عزوجل قد شرف هذه المنطقة بأن اصطفى من بين سكانها نبي هو صالح عليه السلام، وزادها شرف أن مر بها خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم.
ومن المسلم به أيضا أن هناك فريق من الثموديين أمن بما أنزل على صالح عليه السلام واتبعه وفي ذلك يقول تعالى في سورة النمل:
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ، قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ، قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ، وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُون، قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ، وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ، فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ، فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُون، وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}.
وقال تعالى في سورة السجدة:
{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}.
وهذا دليل على أن هناك من أهل الوادي من آمن بالله واتبع رسوله صالح عليه السلام. وقد صدق الله عز وجل وعده مع صالح ومن آمن معه
فنجاهم من الهلاك، ولعل هؤلاء المؤمنين هم الذين استمروا في المنطقة وتوارثهم أحفادهم حتى ذهب الباحثون إلى القول إن الثموديين كانوا يقطنون بعد الميلاد في مواطنهم في أعالي الحجاز([39]).
أما اللحيانيون فقد عبدوا آلهة نسبوها إلى معبودات العرب القديمة، مثل زيد يغوث، وعبد ود، وعبد مناة([40])، بالإضافة إلى الإله (ال) السامي أما أشهر آلهة اللحيانيين فهو (ذوغابت) الذي شيّد له معبد خاص به في الخريبة، وعثر على أنقاضه هناك. والإله (سلمان/ أبا إيلاف) فهو إله القوافل، حيث كان يقوم بحراستها وحمايتها من اللصوص وقطاع الطرق، والإله (كاتب) المقابل للإله المصري القديم، إله الحكمة تحوت([41]).
وشهدت المنطقة عبادة الكواكب والنجوم، فقد عبد النبط الشمس في منازلهم وأحرقوا لها البخور وسكبوا الخمر من أجلها([42]). فكانوا يقيمون الاحتفالات والولائم الدينية ، يشربون فيها الخمر في كؤوس ذهبية ، وكانوا يأكلون على شكل جماعات تتألف من 13شخصا، و بينما تقوم المغنيات بخدمتهم([43])، وقد شاركوا قريشا في عبادة الأصنام مثل دوشرا(ذو شرى) واللات والعزى ومناة([44]). وهبل، وشيع القم، وهو حام القوم وإله القوافل ويعتبر ذو الشرى أو ذوشري المعبود الرئيسي؛ صاحب أرض الشراة، وهي عبارة عن منطقة جبلية تحيط بالبتراء، وهو معبود الشمس وقد مثل على هيئة كتلة من الصخر أو عمود صخري. أما اللات فهي أم الآلهة وهي القمر، بينما تمثل العزى ومناة آلهة الموت وقد ورد أسماؤها في القرآن الكريم، وكان عمرو بن لحي قد قام بنقل بعض هذه المعبودات إلى مكة بعد عودته من البلقاء([45]). وقد أقام الأنباط المعابد لآلهتهم في المنطقة، فقد كان هناك معبد في جبل أثلت يذكرنا بمعابد البتراء، فضلا عن معبد آخر صغير يقع على مبعدة 150 مترا إلى الجنوب من ذات الجبل([46]).
وقد كان الأنباط يؤمنون بالبعث وحياة الخلود بعد الموت، ويتضح ذلك من خلال الاهتمام بدفن الشخص المتوفى، فقد أبدع الأنباط في نحت واجهات مدافنهم ، واهتموا بالمآدب والمضافات الجنائزية، وأثناء الوفاة، و في الأعياد الدينية وأثناء زيارات هذه المدافن([47]).
وأما الديانات المنزلة من عند الله سبحانه وتعالى، فكانت اليهودية هي الأكثر انتشارا في المنطقة قاطبة، فمن المعروف أن جماعات يهودية كثيرة هاجرت إلى بلاد العرب الشمالية والحجاز بعد أن دمر الرومان سنة70 م، مدينة القدس، وأحرقوا المعبد اليهودي إحراقا تاما، ويقال أنه كان مبنيا على التل الشرقي أو الغربي من أورشليم ، واستقرت هذه الجماعات في يثرب (المدينة المنورة) وخيبر ووادي القرى وفدك وتيماء([48])، وزاد عددهم بمرور الزمن، حتى إذا ما ظهر الإسلام كان معظم سكان وادي القرى إلى يثرب من اليهود، وقد عثر في الحجر ، وفي مواضع أخرى من أرض الأنباط، على كتابات نبطية، يرجع بعضها إلى القرن الأول الميلادي، وبعضها الآخر إلى القرن الرابع الميلادي، وردت بها أسماء عبرية تشير إلى أن أصحابها يهود([49]).
وعلى الرغم من اختلاط اليهود بالعرب وتعايشهم معهم، واحتكارهم لبعض الحرف والصناعات ، كالزراعة والصياغة والحدادة وصناعة الأسلحة، والصيرفة والتجارة ، وعلى الرغم أيضا من تعريبهم بحكم تجارتهم للعرب واحتكاكهم بهم، فإنهم لم ينجحوا في نشر اليهودية بين العرب، ويرجع ذلك إلى أسباب منها عدم اهتمامهم بالتبشير بدينهم اعتقادا منهم بأنهم شعب الله المختار وأن سواهم من الشعوب غير جدير بذلك، ومنها احتقار العرب لهم باعتبارهم عملاء للفرس في اليمن، ولما عرفوا به من صفات ذميمة كالتهافت على جمع الأموال ونقض العهود ، ومنها أن شعائر اليهودية المعقدة نفرت من التقيد بها([50]).
([2]) لويس موسيل: شمال الحجاز، ترجمة د. عبد المحسن الحسيني ، الاسكندرية ،1952،ص131؛ عبد العزيز سالم، تاريخ العرب قبل الإسلام ، مؤسسة شباب الجامعة ، الاسكندرية ، ص58؛ محمد بيومي مهران: تاريخ العرب القديم ، دار المعرفة الجامعية ، الإسكندرية ،1988م، ص165؛ محمد الطيب النجار: تاريخ الأنبياء في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية، مكتبة المعارف ، الرياض،ط2،1403هـ-1983م، ص87؛ أمين عبد الفتاح عامر: شبه الجزيرة العربية القديم، مكتبة الرشد، الرياض، ط1،1427هـ/2006م،ص107.
([7]) عبد الرحمن الأنصاري : لمحات عن القبائل البائدة في الجزيرة العربية ، مجلة كلية الآداب ، جامعة الرياض العدد1 ،1969م،ص86،90-91؛ أمين عبد الفتاح عامر: المرجع السابق، ص107؛
Oppenheim .A.L." Babylonion and Assyrian Historical Text" In Prichard. ANET. 1966 .p. 286. A .Musil:The Northern Hegas,N.Y.,1926,P.289
([13]) عبد الرحمن الطيب الأنصاري وحسين بن علي أبو الحسن: العلا ومدائن صالح (الحجر) حضارة مدينتين، الرياض1425هـ/2005م، ص12.
وديدان هو اسم مدينة أو مملكة قديمة، وقد شاع استعمال هذا الاسم منذ بداية القرن السادس ق.م. وظل متوارثا إلى أن تهدمت المدينة بفعل كارثة زلزال لايعرف متى حدث ، أدى إلى انهيارجميع المباني فيها ، واختفى هذا الاسم . وعرف موضعها بين سكان العلا باسم الخريبة لأنه موضع خرب . عبدالله بن آدم بن صالح نصيف : العلا ،دراسة في التراث الحضاري والاجتماعي ، الرياض ،1416هـ، ص15؛ابراهيم سلمان المحفوظ: مقاهي العشائر في العلا بمنطقة المدينة المنورة ،1422هـ/2001م ،ص14.
([14]) عبد الرحمن الأنصاري : لمحات عن القبائل البائدة في الجزيرة العربية ، مجلة كلية الآداب ، جامعة الرياض العدد1 ،1969م،ص86،90-91؛ محمد بيومي مهران: المرجع السابق، ص16-166؛ أمين عبد الفتاح عامر: شبه الجزيرة العربية القديم، مكتبة الرشد، الرياض، ط1،1427هـ/2006م،ص114.
يقترن اسم طسم بجديس في المصادر العربية مثل اقتران عاد بثمود ، وطسم وجديس قبيلتان عربيتان من قبائل العرب البائدة، يرتفع نسبهم إلى لاوذ بن إرم ولم يرد لهما ذكر في القرآن الكريم ، ولا نعرف من تاريخهم إلا ما ورد في تاريخ العرب القديم ، وكانت منازلها في اليمامة والبحرين. المسعودي: مروج الذهب، ج 1،ص43؛ أبو الفدا : المختصر ، ج1، ص125؛ ابن خلدون: العبر،ج3،ص43-44؛ عبد العزيز سالم : تاريخ العرب قبل الإسلام ، مؤسسة شباب الجامعة ، الاسكندرية ، ص59.
وأول من لفت الأنظار إلى "ديدان"، هو السائح "جارلس مونتاكو دوتي" فقد رحل سنة 1876 م إلى أرض مدين، ولم يبال في أثناء رحلته براحته ولا بما قد تتعرض له حياته، من أخطار، ثم زار مواضع عديدة آثارية مثل "مدائن صالح" و "الحجر" و "العلا"، وكتب رحلته هذه كتابة لا تزال تعد من خيرة ما كتب في هذا الموضوع في الأدب الانكليزي، وبذلك لفت الأنظار إلى هذه البقعة الآثارية التي حكمتها مختلف الشعوب وتكدست في أرضها آثارها متداخلة بعضها ببعض.ثم جاء بعد "دوتي" رحالون آخرون، فزاروا هذه المواضع منهم: "يوليوس أويتنك"، و "جارلس هوبر"، و "جوسن" " و "سافينة"، و "فلبي"، وغيرهم، وصوروا بعض الكتابات، و قرأوا ما استطاعوا قراءته من كتابات الأحجار ودونوه، أو أخذوا بعضه، وبذلك تجمعت للباحثين مادة عن تأريخ "العلا"، والمواضع التي تقع في أعالى الجزيرة العربية الغربية، في المملكة الأردنية الهاشمية وفي المملكة العربية السعودية. جواد علي : المفصل، ج1ص329
([22])وقد عالج بعض المستشرقين موضوع "لحيان"، ومنهم "كاسكل" فكتب فيهم كتابين باللغة الألمانية. " ذهب فيهما إلى إن اللحيانيين كانوا كأكثر الشعوب تجاراً، وكانت تجارتهم مع "مصر" بالدرجة الأولى. وقد انتزعوا الحكم من الجاليات المعينن التي كانا تقيم في هذه الأرضين التي كانت في الأصل جزءاً من مملكة معين. فلما ضعف أمر حكومة معين في اليمن ولم يبق في استطاعتها السيطرة على أملاكها البعيدة عنها، طمع الطامعون ومنهم اللحيانيون في المعينيون الشماليين الساكنين في هذه الأرضين، فانتزعوا الحكم منهم وسيطروا عليهم، واندمج المعينيون فيهم حتى صاروا جزءاً منهم. وكان ذلك - على رأيه - في القرن الثاني قبل الميلاد. وفي حوالي "960" قبل الميلاد تقريباً.
ويرى "كاسكل" إن المعينين كانوا قد بقوا يحكمون "ديدان" مكونين حكومة "مدينة" إلى حوالي السنة "150 ق. م."، وعندئذ أغار عليهم اللحيانيون وانتزعوا الحكم منهم، ويرى إن من المحتمل إن الملك الأول الذي حكم اللحيانيين كان من أهل الشمال، وربما كان من النبط غير إن الذين جاءوا بعده كانوا من اللحيانيين.
جواد علي: المرجع السابق ،ج1،ص131.
([23]) محمد بيومي مهران: تاريخ العرب القديم ، دار المعرفة الجامعية ، الإسكندرية ،1988م، ص227-228؛ A.Musil:The Northern Hegas,N.Y.,1926,P.295
يرى ديودور الصقلي وسترابو أن عاصمة المعينيين هي قرناو وموقع بلادهم في الشمال من سبأ وقتبان ، وإلى الغرب من حضرموت. محمد بيومي مهران: المرجع السابق ، ص214Diodorus of Sicily , London , 1946,p.3,42;Strabo,Geography,XVI,768.=
= وهي تقع على بعد 5 و7كم من مدينة الحزم شرق الجوف ، وهي مدينة حصينة ، وعرفت أيضا باسم معين ، كما عرفها الإغريق والرومان باسم Karana /Carna/ Karna بينما يرى الإخباريون أنها حصن تزامن تشييده مع مدينة براقش. البكري: معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع ، القاهرة ، 1945- 1951، ج1، ص237 -238؛ أمين عامر : المرجع السابق، ص129؛ Ropin:C.,"Larabic du sud antique," dans,Raydan, 4, p.150.
وترجمة النص النبطي الذي عثر عليه إلى اللغة العربية كاتلالي : ( هذا القبر الذي بناه عائذ بن كهل بن القيسي لنفسه وأولاده وأعقابه ولمن يكون في يده كتاب من يد عائذ يبيح له ولأي أحد يخوله عائذ في حياته أن يدفن فيه . في شهر نيسان (ابريل) في السنة التاسعة للحارث ملك الأنباط المحب لشعبه ، ولعن ذو الشرى ومناة وقيس كل من يبيع هذا القبر أو يشتريه أ يرهنه أو يهبه أو يؤجره أو ينقش عليه شيئا آخر أن يدفن فيه أحدا إلا الذين كتبت أسماؤهم أعلاه (1 ق.م.).)
J. Horovity, Judaco-Arabic Relations in Pre-Islamic Times,IC,III, 1929, P170. .