الأخية الفتيان
في بلاد التركمان
دكتور مصطفى علي دويدار
الأخية جمع لكلمة أخي فهو
الأخ بعد إضافة ياء المتكلم ، وكأن المقصود بها الإخوة ، وهم طائفةٌ نشأت في منطقة
الأناضول وبلاد التركمان، يقول ابن بطوطة في رحلته عن الأخيّة الفتيان:
"وهم بجميع البلاد التّركمانيّة الروميّة في كل بلد ومدينة وقرية" وقد
وصف طباعهم كما رأها فقد كان شاهد عيان ونزل ضيفا عليهم أثناء رحلته وزيارته
لبلادهم فقال عنهم: "ولا يوجد في الدنيا مثلهم أشد احتفالا بالغرباء من الناس
وأسرع إلى إطعام الطعام وقضاء الحوائج، والأخذ على أيدي الظّلمة، وقتل الشّرط ومن لحق
بهم من أهل الشرّ."
ويفهم من ذلك
أن "الأخية" في هذه الأصقاع كانت تمثل تنظيما نقابيا متكاملا، له كيانه النقابي
بمفهومه الحديث، ويستطرد ابن بطوطة في حديثه عن هذا التنظيم فيقول: "والأخي عندهم:
رجل يجتمع أهل صناعته وغيرهم من الشبّان الأعزاب والمتجرّدين ويقدّمونه على أنفسهم،
وتلك هي الفتوّة أيضا، ويبني زاوية ويجعل فيها
الفرش والسّرج، وما يحتاج اليه من آلات، ويخدم أصحابه بالنهار في طلب معائشهم ويأتون
إليه بعد العصر بما يجتمع لهم فيشترون به الفواكه والطعام إلى غير ذلك ممّا ينفق في
الزّاوية، فإذا ورد في ذلك اليوم مسافر على البلد أنزلوه عندهم وكان ذلك ضيافته لديهم،
ولا يزال عندهم حتى ينصرف، وإن لم يرد وارد اجتمعوا هم على طعامهم فأكلوا وغنّوا ورقصوا
وانصرفوا إلى صناعتهم بالغدوّ، وأتوا بعد العصر إلى مقدّمهم بما اجتمع لهم." وهذا
يعني أن هذا التنظيم لم يقتصر على كونه تنظيما مهنيا بل كان يقوم بدور اجتماعي من خلال
الزوايا التي تشبه إلى حد كبير تلك الزوايا التي أقامها السونسيون في ليبيا أثناء فترة
كفاحهم ضد الاحتلال الإيطالي، ولعل السونسيين أخذو عنهم هذه الفكرة.
وقد كان هؤلاء الأخية يتشبهون بالطوائف الشعبية التي
ظهرت في العصر العباسي "ويسمّون بالفتيان"،
"ويسمّى مقدّمهم الأخي"، وقد وضح من جودهم وحسن استقبالهم لضيوفهم ما
قاله ابن بطوطة: "ولم أر في الدنيا أجمل أفعالا منهم، ويشبههم في أفعالهم أهل
شيراز وإصفهان إلّا أنّ هؤلاء أحبّ في الوارد والصادر وأعظم اكراما له وشفقة عليه."
ومن خلال رحلته يقدم لنا ابن بطوطة صورة جلية عن
"الأخية" في بلاد الروم واحتفالاتهم بالأعياد والمناسبات الدينية
والاجتماعية وقربهم من ذوي السلطة وملازمتهم للسلطان فيقول: "وأظلّنا عيد الفطر
بهذه البلدة فخرجنا إلى المصلّى وخرج السلطان في عساكره والفتيان الأخية، كلهم بالأسلحة،
ولأهل كل صناعة الأعلام والبوقات والطبول والأنفار، وبعضهم يفاخر بعضا ويباهيه في حسن
الهيأة، وكمال الشّكّة، ويخرج أهل كل صناعة معهم البقر والغنم وأحمال الخبز، فيذبحون
البهائم بالمقابر ويتصدّقون بها وبالخبز، ويكون خروجهم أوّلا إلى المقابر، ومنها إلى
المصلّى ولمّا صلّينا صلاة العيد دخلنا مع السلطان إلى منزله وحضر الطعام فجعل للفقهاء
والمشايخ والفتيان سماط على حدة وجعل للفقراء والمساكين سماط على حدة، ولا يردّ عن
بابه في ذلك اليوم فقير ولا غني" ويدل ذلك على أنهم كانوا يمثلون في بعض الأحيان
فرقة عسكرية لها أسلحتها وأعلامها الخاصة وتضرب لهم الأبواق وتدق الطبول، وهذا يخرج
بهم إلى رؤية جديدة تذكرنا إلى حد بعيد بالعيارين والشطار وبعض الفرق الصوفية وغيرها
من الطوائف التي لعبت دورا هاما في الحروب ضد الصليبيين والتتار.
ولعل ماذكره برنارد لويس عن الأخوة يعد
وثيقة رائعة عن أحوالهم، ودراسة جادة لنظمهم، وإن شابها بعض الرؤى المغلوطة ، عن
أهل السنة والجماعة ووصفهم بأنهم معطلون للإبداع ، وهادمون للأسواق ، وأنهم كانوا
سببا في ضعف التجمعات والنقابات العمالية ، إلا أنه كان له الفضل في ايضاح المزيد
من المعلومات عن الأخية، فهو يقول: "انتشرت حركة الأخوة بسرعة كبيرة في المدن
والأرياف - بالتكتل والكرم - كدستورهم، وطبقة أصحاب الحرف كأساس اجتماعي لهم، وقتل
الطغاة ، وصنائعهم كواجب من واجباتهم؛ فكانت حركة اجتماعية سياسية دينية عسكرية في
نفس الوقت. وقد لاحظ أحد الزائرين (يقصد ابن بطوطة) في عهد متقدم أن أعضاء كل جمعية
من جمعيات الأخوة كانوا أصحاب حرفة واحدة. ولابد من أن الاتحاد التام لجمعيات الأخوة
مع الطوائف قد حدث في زمن متقدم، وربما كان ذلك في بدء حركة الأخوة. كما أن الحركة
لم تكن مجرد تنظيم لأصحاب حرفة واحدة، وإنما جعلوا واجبهم حفظ العدل ووقف الظالم عند
حده، واتباع قانون أخلاقي وديني، وتنفيذ واجباتهم العسكرية إن دعت الحاجة للدفاع عن
حقوقهم، ولم تكن العضوية مقصورة على المسلمين فقط إذ نجد عدد المسيحيين عظيماً جداً
في طور متأخر". ومن هنا نرى أن هذه الطائفة كان لها دورها في مواجهة جور الحكام وظلمهم ،
فهم دائما يبحثون عن العدل الاجتماعي بين طبقات المجتمع ، ولم تقف عند أيديولوجية
سياسية أو دينية ، الأمر الذي يجعل نقف بإجلال أمام تنظيمهم.
ولكن المفاجأة
فيما ذكره ابن بطوطة هو أن الفتى الأخي كان يحمل لقب أمير فيقول: " ثم رحلنا إلى
مدينة نكدة، ... وهي من بلاد ملك العراق، مدينة كبيرة كثيرة العمارة قد تخرّب بعضها
ويشقّها النهر المعروف بالنّهر الاسود، وهو من كبار الأنهار عليه ثلاث قناطير، إحداها
بداخل المدينة وثنتان بخارجها، وعليه النواعير بالداخل والخارج منها تسقي البساتين.
والفواكه بها كثيرة، ونزلنا منها بزاوية الفتى أخي جاروق، وهو الأمير بها فأكرمنا على
عادة الفتيان، وأقمنا بها ثلاثا". بل إن الفتى قد يحمل لقب أمير كبير فيقول:
"ونزلنا من هذه المدينة (قيسارية) بزاوية الفتى الأخي أمير عليّ، وهو أمير كبير
من كبار الأخيّة بهذه البلاد، وله طائفة تتبعه من وجوه المدينة وكبرائها وزاويته من
أحسن الزوايا فرشا وقناديلا وطعاما كثيرا وإتقانا، والكبراء من أصحابه وغيرهم يجتمعون
كل ليلة عنده ويفعلون في كرامة الوارد أضعاف ما يفعله سواهم" ويستمر ابن بطوطة
في رصد أنشطتهم فيقول: "ومن عوائدهم أنه لا تزال النار موقودة في زواياهم أيام
الشتاء أبدا يجعلون في كل ركن من أركان الزاوية موقدا للنار ويصنعون لها منافس يصعد
منها الدخان ولا يؤذي الزاوية، ويسمونها البخاريّ واحدها بخيريّ."
ويزعم لويس
أنه بظهور السلطنة العثمانية وتوحيدها فقدت الأخوة كثيراً من سلطتهم ونفوذهم، وبعد
مقاومة عنيفة غير ناجحة اضطروا إلى التخلي عن مهمتهم السياسية والعسكرية، ولكنهم لم
ينحطوا أبداً إلى درجة أصحاب حرف عادية فقد استمرت بينهم روح العصر الأول. ولا أدري
على أي أساس بنى لويس هذا الرأي خاصة وأن معلوماته كلها أخذها عن رواية ابن بطوطة ،
كما أن هذه المنطقة كانت خاضعة لحكم سني قائم على التوحيد فلم يكن هناك دولة شيعية
تبسط نفوزها على الأناضول قبل قيام الدولة العثمانية .
غير أن لويس
يؤكد أنه يتحدث عن هذه الروابط من خلال ما سجلوه في مذكراتهم فيقول: "امتزجت نظم
الطوائف والفتوة والأخوة في الأناضول بسرعة، وتم ذلك في كل البلاد الإسلامية المتوسطة
(مركزاً) في القرن الخامس عشر(التاسع الهجري). وقد جاءت معظم وثائقنا عن النظام الداخلي
لهذه الطوائف بوساطة طوائف الفتوة. فكان لكل طائفة قانون يحتوي على قواعد وعادات وشعائر
يتلى شفهياً عادة. وكان هذا القانون يعرف بالدستور (كلمة فارسية معناه: إذن. مؤخراً.
نظام) وكانت تكتب هذه القوانين في بعض الأحيان. وقد وصلنا عدد كبير من هذه الكراريس
ترجع إلى القرن الرابع عشر الميلادي/ الثامن الهجري وما بعده. ويعتبر كتاب الفتوة أو
(فتوات نامه) كما تسمى هذه الكراريس بالعربية والتركية على التوالي مع عدد من كتب الرحلات
والجغرافيا. المصدر الأساسي لمعلوماتنا وتتألف جميع هذه الكتب تقريباً حسب خطة واحدة
من ثلاثة أقسام. القسم الأول يحوي أساطير تتعلق بأصل الحرفة ومغامرات مؤسسها الذي تنتمي
إليه، وهي تعطى عادة حلقة من التنشيئ مثلاً: الله علم جبريل، جبريل علم محمد، محمد
علم علياً، عليّ علم سلمان الفارسي، وسلمان علم الأبيار (وهم حماة أصحاب الحرف حسب
تقاليدهم) والأبيار علموا الفروع (وهم الحماة الثانويون للشعب المختلفة لأصحاب الحرفة
الواحدة). وهؤلاء الفروع علموا بدورهم رؤساء الأصناف العاديين. وهذه الأساطير تظهر
عادة تأثيراً قوياً للإسماعيلية والصوفية. القسم الثاني: يحوي عادة قائمة بأسماء الأبيار
والفروع لمختلف الحرف، وهؤلاء عادة أشخاص اقتبسوا من التوراة والقرآن ومن التاريخ الإسلامي،
وهكذا نجد آدم حامي الفلاحين والخبازين، وشيت حامي الحياكة والخياطين، ونوح حامي النجارين،
وداوود حامي الحدادين والصياغ وإبراهيم حامي الطباخين وإسماعيل حامي صناع الأسلحة.
والقسم الثالث يحوي التعاليم لتثقيف المبتدئين، والأسئلة فيه تظهر اتصالاً قوياً بآراء
الدراويش."
ثم ينتقل
لويس إلى التنظيم الداخلي للأخية والنقابات المهنية الإسلامية ، ويقدم وصفا دقيقا لهذا
التنظيم، فيقول: "ويمكننا من هذه الكراريس (كتب الفتوة) أن نصور نظام الطوائف
لحد ما.... منذ القرن 14م/8 هـ حتى القرن20م / 14هـ ، ويشمل كل البلاد الإسلامية. يرأس
الطائفة الشيخ ينتخبه الأساتذة من بين رجال الحرفة، وبعد انتخابه يكون حاكم الطائفة
الأوحد ويجمع وظائف رئيس وأمين صندوق وكاتب، وهو (أي الشيخ) موجود في جميع الطوائف
الإسلامية وفي بعض الطوائف في مصر في القرن السادس عشر الميلادي/ العاشر الهجري ونجد
له مساعداً، وهو النقيب، ومنزلته بالنسبة إلى الشيخ (كمنزلة الوزير من السلطان) ويظهر
أنه كان رئيس التنفيذ لأوامر الشيخ ومنظم الحفلات أيضاً. ويليه الاختيارية أو المسنون
بين أساتذة الطائفة يتعاونون معه على إدارة الطائفة؛ ثم يأتي الأساتذة ويدعى الواحد
عادة أسطى أو أحياناً (معلم)، وهم يشكلون القسم الرئيسي من الطائفة. أما الصانع فلا
يلعب دوراً هاماً في الطوائف الإسلامية ولا وجود له عادة إذ يكون الانتقال من مبتدئ
إلى أسطى رأساً؛ ويوجد في بعض النقابات دور وسط يدعى العامل .....، وهذا الدور وقتي
فقط وتتم الحلقة بالمبتدئ وفي أغلب الحالات لا يحدد وقت الدور الذي يقضيه المبتدئ ولا
يطلب منه صنع شئ مثالي متقن جداً بالمعنى المفهوم عند الأوربيين . فزمن الدراسة والإجازة
يعين من قبل الأستاذ الذي يشتغل معه المبتدئ. وتختلف النصوص في مسالة تطبيق النظام
فيقول البعض إن الشيخ يطبقه أو ينفذه منفرداً. ويقول آخرون إنه يفعل ذلك بمساعدة الاختيارية."
هناك نوع آخر
من التنظيم في الطوائف الأناضولية المتأخرة وصفه كورد لفسكي إذ يطلب هنا من المبتدئ
قضاء ألف يوم ويوم في هذا الدور. كما أنه لا يأخذ في هذا الدور أي أجر ولكن له الحق
أن يحصل على بعض المكافأة (البقشيش) ووليمة عند انتمائه إلى الطائفة ، ويدربه أستاذ
في شئون حرفته كما يحصل على دراسة أخلاقية في الزاوية في نفس الوقت. وإذا تتلمذ المبتديء
لأستاذ معين ، فعليه أن يبقى مع أستاذه ، ولن يقبله أستاذ آخر كتلميذ له. وفي نهاية
هذا الدور يطلب منه عمل شئ مثالي متقن في صناعته ثم يجاز في حفلة عامة من قبل - الأصناف
باشى - أي شيخ الحرفة ، وال - يكيت باشلرى - أي الاختيارية، وبعد هذا يصبح خلفه ويجب
عليه أن يبقى ستة أشهر على الأقل وبعد انتهائها يستطيع أن يمارس حرفته كأستاذ - وفي
هذا يساعده أستاذه وغيره من الأساتذة من الوجهة المالية عادة.
وترأس الطائفة
هيئة تدعى لونجة هيئتي تتشكل من شيوخها أي الرجال المسنين ويكون القرار النهائي للرئيس
الذي ينتخب عادة لتقواه. وتجتمع الهيئة مرة كل أسبوعين، وينفذ الأوامر والعقوبات الجاويش
أوال - أوش باشي - وتحرص الطوائف كثيراُ على كيفية نوع المنتج ويعاقب صاحب الإنتاج
الرديء بطرده مؤقتاً من الطائفة تشتري المواد الأولية تحت رقابة الشيخ، ولأصحاب الحرفة
الفقراء حق الأقدمية في هذا على الأغنياء ، ويُعقد اجتماعٌ عامٌ سنوياً.
كذلك جاء مايؤكد
طبيعة تلك النقابات الحرفية من حيث أساليب عملها ومجالات نشاطها فى تلك الحقب التاريخية
ومنها ما جاء في كتاب "الذخائر والتحف فى بير الصنائع والحرف", ويذكر أن
لتلك النقابات تقاليد عرفتها واعتمدتها كأعراف فى حياتها الداخلية ومنها عملية الشد
والربط, وهو تقليد كان متبعا فى شد أو ربط الإبهام بالإبهام بين النقابى المبتدئ والزعيم
أى شيخ النقابيين, خلالها تتلى بعض الأدعية ، كذلك اتبع البعض عملية الربط أو الشد
من خلال وضع السرة على السرة للتعبير عن الترابط الأخوى بين حبل السرة وكأنهم توأمان
فى بطن أم واحدة هذا التعبير عن المستوى العالى من العلاقة قد تجاوزت حدود الإخوة
, ومن هنا جاءت كلمة الرابطة "من الربط والشد".
ومن هنا نستطيع القول أن هذه
الطوائف النقابية كانت تقوم بدور كبير في الحياة الاجتماعية ولها تأثيرها على
المهن والحرف السائدة من رقي وتقدم ، وكذلك الصناع والعمال وما لهم وما عليهم
وضمان تأمين حياتهم وطريقة ممارستهم لأعمالهم وصنائعهم، كما ساهموا بقدر واضح في
رد الظلم عن المظلومين في مواجهة السلطات القهرية .